{سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي ءالآء ربكما تكذبان} هذه الجملة المقصود بها الوعيد، كما يقول قائل لمن يتوعده سأتفرغ لك، وأجازيك. وليس المعنى أن الله تعالى يشغله شأن عن شأن ثم يفرغ من هذا، ويأتي إلى هذا، هو سبحانه يدبر كل شيء في آن واحد في مشارق الأرض ومغاربها وفي السماوات، وفي كل مكان يدبره في آن واحد، ولا يعجزه. فلا تتوهمن أن قوله: {سنفرغ} أنه الآن مشغول وسيفرغ. بل هذه جملة وعيدية تعبر بها العرب، والقرآن الكريم نزل بلغة العرب وفي قوله: {سنفرغ لكم} من التعظيم ما هو ظاهر حيث أتى بضمير الجمع، {سنفرغ} تعظيماً لنفسه - جل وعلا - وإلا فهو واحد، وقوله: {أيها الثقلان } يعني الجن والإنس، وإنما وجه هذا الوعيد إليهما، لأنهما مناط التكليف، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } سبق تفسيرها فلا حاجة إلى التكرار {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأَرض فانفذوا} بعد الوعيد قال: {إن استطعتم أن تنفذوا} أي: مما نريده بكم {من أقطـر السموات والأَرض فانفذوا} ولكنكم لا تستطيعون هذا، فالأمر هنا للتعجيز، ولهذا قال: {لا تنفذون إلا بسلطان } يعني ولا سلطان لكم، ولا يمكن أحد أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض إلى أين يذهب؟ لا يمكن ثم قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار} يعني لو استطعتم، أو لو حاولتم لكان هذا الجزاء {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس} أي: محمى بالنار {فلا تنتصران} أي: فلا ينصر بعضكم بعضاً، وهذه الآية في مقام التحدي، وقد أخطأ غاية الخطأ من زعم أنها تشير إلى ما توصل إليه العلماء من الطيران، حتى يخرجوا من أقطار الأرض ومن جاذبيتها، وإلى أن يصلوا كما يزعمون إلى القمر أو إلى ما فوق القمر، فالآية ظاهرة في التحدي، والتحدي هو توجيه الخطاب إلى من لا يستطيع، ثم نقول: إن هؤلاء هل استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات، لو فرضنا أنهم نفذوا من أقطار الأرض ما نفذوا من أقطار السماوات، فالآية واضحة أنها في مقام التحدي، وأنها لا تشير إلى ما زعم هؤلاء أنها تشير إليه، ونحن نقول الشيء الواقع لا نكذبه، ولكن لا يلزم من تصديقه أن يكون القرآن دل عليه أو السنة، الواقع واقع، فهم خرجوا من أقطار الأرض، وهذا واقع لا يحتاج إلى دليل، وهذه الآية في سياقها إذا تأملتها وجدت أن هذا التحدي يوم القيامة، لأنه قال: {كل من عليها فان }، ثم ذكر {يسأله من في السماوات والأَرض} ثم ذكر {يا معشر الجن}، ثم ذكر ما بعدها يوم القيامة، {فإذا انشقت السماء} يعني تفتحت وذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} {فكانت وردةً} أي: مثل الوردة في الحمرة {كالدهان }، كالجلد المدهون، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } {فيومئذ} أي: إذا انشقت {لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن } لماذا؟ لأن كل شيء معلوم، والمراد لا يسأل سؤال استرشاد واستعلام، لأن كل شيء معلوم، أما سؤال تبكيت فيسأل مثل قوله تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأَنبـاء يومئذ فهم لا يتساءلون} وقال - عز وجل -: {إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} وقال - عز وجل - لأهل النار وهم يلقون فيها: {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} وأمثالها كثير، إذن لا يسأل عن ذنبه سؤال استرشاد واستعلام، وإنما يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ، وما جاء من سؤال الإنس والجن عن ذنوبهم: هل أنت عملت أو لم تعمل؟ فهو سؤال تبكيت وتوبيخ، وهناك فرق بين سؤال الاسترشاد وسؤال التوبيخ فلا تتناقض الآيات، فما جاء أنهم يسألون فهو سؤال توبيخ، وما جاء أنهم لا يسألون فهو سؤال استرشاد واستعلام، لأن الكل معلوم ومكتوب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم} أي: بعلامتهم يعرفون، ومن علاماتهم - والعياذ بالله - أنهم سود الوجوه، قال الله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وأنهم يحشرون يوم القيامة زرقاً إما أنهم زرق أحياناً وسود أحياناً، وإما أنهم سود الوجوه زرق العيون، وإما أنهم زرق زرقة يعني بالغة يحسبها الإنسان سوداء {يعرف المجرمون بسيمـهم فيؤخذ بالنواصي والأَقدام } النواصي مقدم الرأس، والأقدام معروفة، فتؤخذ رجله إلى ناصيته، هكذا يطوى طيًّا إهانة له وخزياً له، فيؤخذ بالنواصي والأقدام، ويلقون في النار {فبأي ءالآء ربكما تكذبان هـذه جهنم التى يكذب بها المجرمون} يعني يقال هذه جهنم التي تكذبون بها، وقال {المجرمون } ولم يقل: تكذبون بها، إشارة إلى أنهم مجرمون، وما أعظم جرم الكفار الذين كفروا بالله ورسوله، واستهزؤا بآيات الله واتخذوها هزواً ولعباً، {يطوفون بينها} أي: يترددون بينها {وبين حميم ءان } أي: شديد الحرارة - والعياذ بالله -. أما كيف يكون ذلك فالله أعلم، لكننا نؤمن بأنهم يطوفون بينها وبين الحميم الحار الشديد الحرارة، والله أعلم بذلك، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }، ثم ذكر جزاء أهل الجنة فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان } يعني أن من خاف المقام بين يدي الله يوم القيامة، فإن له جنتين. وهذا الخوف يستلزم شيئين: الشيء الأول: الإيمان بلقاء الله - عز وجل - لأن الإنسان لا يخاف من شيء إلا وقد تيقنه. والثاني: أن يتجنب محارم الله، وأن يقوم بما أوجبه الله خوفاً من عقاب الله تعالى، فعليه يلزم كل إنسان أن يؤمن بلقاء الله - عز وجل -، لقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } وقال تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}، وأن يقوم بما أوجبه الله، وأن يجتنب محارم الله فمن خاف هذا المقام بين يدي الله - عز وجل - فله جنتان {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } سبق الكلام عليها {ذواتآ أفنان} أي صاحبتا أفنان، والأفنان جمع فنن وهو الغصن، أي أنهما مشتملتان على أشجار عظيمة ذواتي أغصان كثيرة وهذه الأغصان كلها تبهج الناظرين {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }، ثم قال {فيهما عينان تجريان } أي: في الجنتين عينان تجريان، وقد ذكر الله تعالى أن في الجنة أنهاراً من أربعة أصناف، فقال - جل وعلا -: {مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} والعينان اللتان تجريان، يظهر - والله أعلم - أنهما سوى هذه الأنهار الأربعة{فبأي ءالآء ربكما تكذبان } وقوله: {فيهما من كل فاكهة زوجان } أي: في هاتين الجنتين من كل فاكهة،والفاكهة كل ما يتفكه الإنسان به مذاقاً ونظراً، فيشمل أنواع الفاكهة الموجودة في الدنيا، وربما يكون هناك فواكه أخرى ليس لها نظير في الدنيا، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }