{متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان } أي: يتنعمون بهذه الفاكهة حال كونهم متكئين، وعلى هذا فكلمة متكئين حال من فاعل والفعل المحذوف، أي: يتنعمون ويتفكهون، متكئين، والاتكاء قيل: إنه التربع، لأن الإنسان أريح ما يكون إذا كان متربعاً، وقيل {متكئين} أي: معتمدين على مساند من اليمين والشمال ووراء الظهر {على فرش} يعني جالسين {على فرش بطآئنها من إستبرق} يعني بطانة الفراش وهو ما يدحى به الفراش من استبرق وهو غليظ الديباج، وأما أعلى هذه الفرش فهو من سندس، وهو رقيق الديباج، وكله من الحرير {وجنى الجنتين دان } تأمل أو تصور هذه الحال إنسان متكىء مطمئن مستريح يريد أن يتفكه من هذه الفواكه هل يقوم من مكانه الذي هو مستقر فيه متكىء فيه ليتناول الثمرة؟ بيّن الله بقوله تعالى ذلك {وجنى الجنتين دان } قال أهل العلم: إنه كلما نظر إلى ثمرة وهو يشتهيها، مال الغصن حتى كانت الثمرة بين يديه لا يحتاج إلى تعب وإلى قيام، بل هو متكىء، ينظر إلى الثمرة مشتهياً إياها، فتتدلى له بأمر الله - عز وجل - مع أنها جماد، لكن الله تعالى أعطاها إحساساً بأن تتدلى عليه إذا اشتهاها ولا تستغرب فهاهي الأشجار في الغالب تستقبل الشمس، انظر إلى وجوه الأوراق أول النهار تجدها متجهة إلى المشرق، وفي آخر النهار تجدها متجهة إلى المغرب ففيها إحساس، كذلك أيضاً جنى الجنتين دان قريب يحس، إذا نظر إليه الرجل أو المرأة فإنه يتدلى حتى يكون بين يديه، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف} {فيهن} أكثر العلماء يقولون: إن الضمير يعود إلى الجنتين، وأن الجمع باعتبار أن لكل واحد من الناس جنة خاصة به، فيكون {فيهن} أي في جنة كل واحد ممن هو في هاتين الجنتين قاصرات الطرف، وعندي أن قوله {فيهن} يشمل الجنات الأربع، هاتين الجنتين، والجنتين اللتين بعدهما، {قاصرات الطرف} يعني أنها تقصر طرفها أي نظرها على زوجها فلا تريد غيره، والوجه الآخر: قاصرات الطرف، أي: أنها تقصر طرف زوجها عليها فلا يريد غيرها، وعلى القول الأول يكون قاصرات مضافة إلى الفاعل، وعلى الثاني مضاف إلى المفعول {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } أي: لم يجامعهن، وقيل: إن الطمث مجامعة البكر، والمعنى أنهن أبكار لم يجامعهن أحد من قبل لا إنس ولا جن، وفي هذا دليل واضح على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان} أي: في الحسن والصفاء كالياقوت والمرجان، وهما جوهران نفيسان، الياقوت في الصفاء، والمرجان في الحمرة، يعني أنهن مشربات بالحمرة مع صفاء تام {فبأي ءالآء ربكما تكذبان }، ثم قال - عز وجل -: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } يعني ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، الإحسان الأول: العمل، والإحسان الثاني: الثواب، أي: ما جزاء إحسان العمل إلا إحسان الثواب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان} أي: من دون الجنتين السابقتين جنتان من نوع آخر، وقد جاء ذلك مبيناً في السنة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما (6) » والآية صريحة أن هاتين الجنتين دون الأوليان {فبأي ءالآء ربكما تكذبان مدهآمتان} أي: سوداوان من كثرة الأشجار {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان} أي: تنضخ بالماء، أي: تنبع، وفي الجنتين السابقتين قال: {فيهما عينان تجريان }، والجري أكمل من النبع، لأن النبع لايزال في مكانه لكنه لا ينضب، أما الذي يجري فإنه يسيح، فهو أعلى وأكمل، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان } وهناك يقول: {فيهما من كل فاكهة زوجان }، أما هذا فقال {فيهما فاكهة ونخل ورمان }، والنخل والرمان معروفان في الدنيا، ولكن يجب أن تعلم أنه لا يستوي هذا وهذا. الاسم واحد والمسمى يختلف اختلافاً كثيراً، ودليل ذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون } ولو كانت النخل والرمان كالنخل والرمان في الدنيا لكنا نعلم، لكننا لا نعلم، فالاسم واحد، ولكن الحقيقة مختلفة، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط» (7) ، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان} {فيهن} وهذا جمع، وقد قال قبل ذلك {فيهما}، لأن هذا الجمع يعود على الجنان الأربع، ففي الجنان الأربع قاصرات الطرف كما سبق، وفي الجنان الأربع {خيرات حسان } أي: في الأخلاق. الأخلاق طيبة، حسان الوجوه والبدن، فالأول حسن الباطن وهذا حسن الظاهر {فبأي ءالآء ربكما تكذبان * حور مقصورات في الخيام} الحوراء هي الجميلة، التي جملت في جميع خلقها، وبالأخص العين: شديدة البياض، شديدة السواد، واسعة مستديرة من أحسن ما يكون، {مقصورات} أي: مخبئات، {في الخيام }: جمع خيمة، والخيمة معروفة هي بناء له عمود وأروقة، لكن الخيمة في الآخرة ليست كالخيمة في الدنيا، بل هي خيمة من لؤلؤة طولها في السماء مرتفع جداً، ويرى من في باطنها من ظاهرها، ولا تسأل عن حسنها وجمالها، هؤلاء الحور مقصورات مخبئات في هذه الخيام على أكمل ما يكون من الدلال والتنعيم {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } يعني لم يجامعهن أحد، بل هي باقية على بكارتها إلى أن يغشاها زوجها، جعلنا الله منهم، {ولا جآن } أي: ولا جن، وهذا يدل على أن الجن يدخلون الجنة مع الإنس وهو كذلك، لأن الله لا يظلم أحداً، والجن منهم صالحون، ومنهم دون ذلك، ومنهم مسلمون ومنهم كافرون، كالإنس تماماً، كما أن الإنس فيهم مطيع وعاصٍ، وفيهم كافر ومؤمن، كذلك الجن، والجن المسلم فيه خير، ويدل على الخير، وينبىء بالخير، ويساعد أهل الصلاح من الإنس، والجن الفاسق أو الكافر مثل الفاسق أوالكافر من بني آدم سواء بسواء، وكافرهم يدخل النار ، بإجماع المسلمين كما في القرآن: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} وهذا نص القرآن، وأجمع العلماء على أن الكافر من الجن يدخل النار، ومؤمن الجن يدخل الجنة، وقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } يدل على أن الجن يدخلون الجنة، وهو كذلك {فبأي ءالآء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} أي: معتمدين بأيديهم وظهورهم {على رفرف} أي: على مساند ترفرف مثل ما يكون على أطراف المساند، ويكون في الأسرّة، هكذا يرفرف، {متكئين على رفرف خضر}، لأن اللون الأخضر أنسب ما يكون للنظر، وأشد ما يكون بهجة للقلب، {وعبقري حسان }، العبقري هو الفرش الجيدة جداً، ولهذا يسمى الجيد من كل شيء عبقري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية التي رآها حين نزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «فما رأيت عبقرياً يفري فريه» (8) أي: ينزع نزعه: من قوته رضي الله عنه، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان } المعنى التقرير، يعني أن النعم واضحة فبأي شيء تكذبون؟ الجواب: لا نكذب بشيء، نعترف بآلاء الله ونعمه ونقر بها ونعترف بأننا مقصرون، لم نشكر الله تعالى حق شكره، ولكننا نؤمن بأن الله أوسع من ذنوبنا، وأن الله تبارك وتعالى عفو كريم يحب توبة عبده، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم» وذكر الرجل في فلاة أضل راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فطلبها ولم يجدها، فأيس منها فاضطجع في ظل شجرة ينتظرالموت، آيس من الحياة، فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، فأخذه وقال:«اللهم أنت عبدي وأنا ربك» (9) ، يريد أنت ربي وأنا عبدك، لكن من شدة الفرح أخطأ فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل بناقته، اللهم تب علينا يا رب العالمين {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } ختم الله تبارك وتعالى هذه السورة بهذه الجملة العظيمة، أي ما أعظم بركة الله - عز وجل - وما أعظم البركة باسمه، حتى إن اسم الله يحلل الذبيحة أو يحرمها، لو ذبح الإنسان ذبيحة ولم يقل باسم الله تكون ميتة حراماً نجسة مضرة على البدن، حتى لو ذبح ونسي أن يقول: بسم الله. فهي حرام نجسة تفسد البدن، فيجب أن يسحبها للكلاب، لأنها نجسة، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} فانظر البركة، والإنسان إذا توضأ ولم يسم فوضوؤه عند بعض العلماء فاسد لابد من الإعادة، لأن البسملة واجبة عند بعض أهل العلم، والإنسان إذا رأى الصيد الزاحف، أو الطائر فيرميه ولم يسمِ يكون هذا الصيد حراماً ميتة نجساً مضراً على البدن، فانظر البركة، والإنسان إذا أتى أهله يعني جامع زوجته وقال: «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا» كان هذا حماية لهذا الولد الذي ينشأ من هذا الجماع، حماية له من الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً (10) » والإنسان يسعى يميناً وشمالاً لحماية ولده ويخسر الدراهم الكثيرة، وهنا هذا الدواء من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يسير من ناحية العمل، وسهل، وكل هذا دليل على بركة اسم الله عز وجل، {ذي الجلال والإكرام } أي: ذي العظمة والإكرام،{ذي الجلال والإكرام }: بمعنى صاحب، وهي صفة لرب، لا لـ(اسم) ولو كانت صفة لـ(اسم) لكانت ذو، والإكرام يعني هو يُكرِم وهو يُكرَم، فهو يكرم ويحترم ويعظم - عز وجل - وهو أيضاً يكرم، قال الله تعالى في أصحاب الجنة {أولـئك في جنات مكرمون } فهو ذو الجلال والإكرام يكرم من يستحق الإكرام، وهو يكرمه - عز وجل - عباده الصالحون جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
-----------------------
(1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا (رقم 61) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة (رقم 2811).
(2) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرحمن (3291) وقال: هذا حديث غريب.
(3) انظر: تفسير ابن كثير رحمه الله سورة الرحمن حيث نسبه للشعبي رحمه الله.
(4) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة (2969) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(5) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (71).
(6) تقدم.
(7) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (رقم 124).
(8) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذاً خليلاً (3676) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2393).
(9) أخرجه البخاري كتاب الدعوات، باب التوبة (6308، 6309) ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747).
(10) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع (141) ومسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434).