ثم ذكر انتفاء الدليل النقلي فقال‏:‏ ‏{‏اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا‏}‏ الكتاب يدعو إلى الشرك ‏{‏أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ موروث عن الرسل يأمر بذلك‏.‏ من المعلوم أنهم عاجزون أن يأتوا عن أحد من الرسل بدليل يدل على ذلك، بل نجزم ونتيقن أن جميع الرسل دعوا إلى توحيد ربهم ونهوا عن الشرك به، وهي أعظم ما يؤثر عنهم من العلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ وكل رسول قال لقومه‏:‏ ‏{‏اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ فعلم أن جدال المشركين في شركهم غير مستندين فيه على برهان ولا دليل وإنما اعتمدوا على ظنون كاذبة وآراء كاسدة وعقول فاسدة‏.‏ يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبع علومهم وأعمالهم والنظر في حال من أفنوا أعمارهم بعبادته هل أفادهم شيئا في الدنيا أو في الآخرة‏؟‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي‏:‏ مدة مقامه في الدنيا لا ينتفع به بمثقال ذرة ‏{‏وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ‏}‏ لا يسمعون منهم دعاء ولا يجيبون لهم نداء هذا حالهم في الدنيا، ويوم القيامة يكفرون بشركهم‏.‏

{‏وَإِذَا حُشرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً‏}‏ يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض ‏{‏وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏


‏[‏7ـ 10‏]‏ ‏
﴿{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏

أي‏:‏ وإذا تتلى على المكذبين ‏{‏آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ‏}‏ بحيث تكون على وجه لا يمترى بها ولا يشك في وقوعها وحقها لم تفدهم خيرا بل قامت عليهم بذلك الحجة، ويقولون من إفكهم وافترائهم ‏{‏لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ ظاهر لا شك فيه وهذا من باب قلب الحقائق الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول، وإلا فبين الحق الذي جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين السحر من المنافاة والمخالفة أعظم مما بين السماء والأرض، وكيف يقاس الحق ـ الذي علا وارتفع ارتفاعا على الأفلاك وفاق بضوئه ونوره نور الشمس وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه، وأقرت به وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينةـ بالباطل الذي هو السحر الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس خبيث العمل‏؟‏‏!‏ فهو مناسب له وموافق لحاله وهل هذا إلا من البهرجة‏؟‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ‏}‏ أي‏:‏ افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه فليس هو من عند الله‏.‏