الشيخ حافظ بن احمد حكمي

مولده ونشأته

ولد الشيخ حافظ الحكمي لأربع وعشرين ليلة خلت من شهر رمضان المبارك من سنة 1342هـ بقرية ( السلام ) وتسمى الآن ( قرية الخمس )التابعة لمدينة (المضايا ) - الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة (جازان ) حاضرة المنطقة ، على الساحل ، قريبة منها - حيث قبيلته التي إليها ينتسب
ثم انتقل مع والده أحمد إلى قرية ( الجاضع ) التابعة لمدينة ( صامطة ) في نفس المنطقة ، وهو ما يزال صغيراً ؛ لأن أكثر مصالح والده - من أراض زراعية ومواش ونحوهما - كانت هناك ، وإن بقيت أسرته الصغيرة تنتقل بين قريتي ( السلام ) ( قرية : الخمس ) و ( الجاضع ) لظروفها المعيشية.

ونشأ حافظ في كنف والديه نشأة صالحة طيبة تربى فيها على العفاف والطهارة وحسن الخلق ، وكان قبل بلوغه يقوم برعي غنم والديه التي كانت أهم ثروة لديهم آنذاك جرياً على عادة المجتمع في ذلك الوقت ، إلا أن حافظاً لم يكن كغيره من فتيان مجتمعه ؛ فقد كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم ، فلقد ختم القرآن وحفظ الكثير منه وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة بعد ، وكذلك تعلم الخط وأحسن الكتابة منذ الصغر

طلبه للعلم

عندما بلغ الشيخ حافظ من العمر سبع سنوات أدخله والده مع شقيقه الأكبر محمد مدرسة لتعليم القرآن الكريم بقرية ( الجاضع ) فقرأ على مدرِّسه بها جزأي ) عم ، وتبارك ) ؛ ثم واصل قراءته مع أخيه حتى أتم قراءة القرآن مجوَّدة خلا أشهر معدودة ، ثم أكمل حفظه حفظاً تاماً بعيد ذلك

اشتغل بعدئذ بتحسين الخط فأولاه أكبر جهوده حتى أتقنه ، وكان ينسخ من مصحف مكتوب بخط ممتاز ، إلى جانب اشتغاله مع أخيه بقراءة بعض كتب الفقه والفرائض والحديث والتفسير والتوحيد مطالعة وحفظاً بمنزل والده إذ لم يكن بالقرية عالم يوثق بعلمه فُيتتلمذ على يديه

وفي مطلع سنة 1358هـ قدم من (نجد ) الشيخ الداعية المصلح عبد الله بن محمد بن حمد القرعاوي إلى منطقة (تهامة ) في جنوب المملكة ، بعد أن سمع عما كان فيها من الجهل والبدع - شأن كل منطقة يقلًّ فيها الدعاة والمصلحون أو ينعدمون - ونذر نفسه مخلصاً على أن يقوم بالدعوة إلى الدين القويم ، وتصحيح العقيدة الإسلامية في النفوس ، وإلى إصلاح المجتمع وإزاحة ما كان عالقاً في أذهان الجهال من اعتقادات فاسدة وخرافات مضلة

وفي سنة 1359هـ قدم شقيق حافظ عٍّمي ) محمد بن أحمد ) برساله منه ومن أخيه حافظ يطلبان فيها من الشيخ القرعاوي كتباً في التوحيد ، ويعتذران عن عدم القدرة على المجيء إليه لانشغالهما بخدمة والديهما والعناية بشؤونهما ، كما يطلبان منه - إن كان في استطاعته - أن يتوجه إليهما بقريتهما ليسمعا من بعض ما يلقي من دروس ، وفعلاً لبى الشيخ طلبهما وذهب إلى قريتهما ، وهناك التقى بحافظ وعرفه عن كثب ، وتوسم فيه النجابة والذكاء ، وقد صدقت فيه فراسته

ومكث الشيخ عدة أيام في ( الجاضع ) ألقى فيها بعض دروسه العلمية التي حضرها مجموعة من شيوخ القرية وشبابها ومن بينهم الشيخ حافظ الذي كان أصغرهم سناً ، لكنه كان أسرعهم فهماً وأكثرهم حفظاً واستيعاباً لما يلقى الشيخ من معلومات ، يقول عنه (الشيخ عبد الله القرعاوي : ( وهكذا جلست عدة أيام في الجاضع ، وحافظ يأخذ الدروس وإن فاته شيء نقله من زملائه ، فهو على اسمه ( حافظ ) يحفظ بقلبه وخطه ، والطلبة الكبار كانوا يراجعونه في كل ما يشكل عليهم في المعنى والكتابة ، لأني كنت أملي عليهم إملاء ثم أشرحه لهم

وعندما أراد الشيخ العودة إلى مدينة ) صامطة ) التي جعلها مقراً له ومركزاً لدعوته ، طلب من والدي حافظ أن يرسلاه معه ليطلب العلم على يديه في ( صامطة ( على أن يجعل لهما من يرعى غنمهما بدلاً عنه ، ولكنهما رفضا طلب الشيخ أول الأمر وأصرَّا على أن يبقى ابنهما الصغير في خدمتهما لحاجتهما الكبيرة إليه
وتشاء إرادة الله أن لا تطول حياة والدته بعد ذلك إذ توفيت في شهر رجب سنة 1360هـ فيسمح والده له ولأخيه محمد بأن يذهبا إلى الشيخ للدراسة لمدة يومين أو ثلاثة أيام في الأسبوع ثم يعودا إليه ، فكان حافظ لذلك يذهب إلى الشيخ في ( صامطة ) فيملي عليه الدروس ، ثم يعود إلى قريته ، وكان ملهماً يفهم ويعي كل ما يقرأ أو يسمع من معلومات

ولم يعمر والده بعد ذلك إذ انتقل إلى جوار ربه وهو عائد من حجٍّ سنة 1360هـ رحمه الله - فتفرغ حافظ للدراسة والتحصيل ، وذهب إلى شيخه ولازمه ملازمة دائمة يقرأ عليه ويستفيد منه
وكان حافظ في كل دراساته على شيخه مبرزاً ونابغة ، فأثمر في العلم بسرعة فائقة ، وأجاد قول الشعر والنثر معاً ، وألف مؤلفات عديدة في كثير من العلوم والفنون الإسلامية ، ولقد كان كما قال عنه شيخه : (( لم يكن له نظير في التحصيل والتأليف والتعليم والإدارة في وقت قصير ))

علمه

مكث حافظ يطلب العلم على يد شيخه الجليل عبد الله القرعاوي ، ويعمل على تحصيله ، ويقتني الكتب القيمة والنادرة من أمهات المصادر الدينية واللغوية والتاريخية وغيرها يستوعبها قراءة وفهماً

وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره - ومع صغر سنه - طلب منه شيخه أن يؤلف كتاباً في توحيد الله ، يشتمل على عقيدة السلف الصالح ، ويكون نظماً ليسهل حفظه على الطلاب ، يعدّ بمثابة اختبار له يدل على القدر الذي استفاد من قراءاته وتحصيله العلمي ؛ فصنف منظومته ( سلم الوصول إلى علم الأصول - في التوحيد ) التي انتهى من تسويدها في سنة 1362هـ وقد أجاد فيها ، ولاقت استحسان شيخه والعلماء المعاصرين له
ثم تابع تصنيف الكتب بعد ذلك ، فألَّف في التوحيد ، وفي مصطلح الحديث ، وفي الفقه وأصوله ، وفي الفرائض ، وفي السيرة النبوية ، وفي الوصايا والآداب العلمية ، وغير ذلك نظماً ونثراً ، وقد طبعت جميعها طبعتها الأولى على نفقة المغفور له جلالة الملك سعود بن عبد العزيز

ويتضح لنا من آثاره العلمية أن أبرز مقروءاته ذات الأثر في منهجه العلمي ومؤلفاته هي تلك الكتب التي ألّفها علماء السلف الصالح من أهل السنة في العلوم الإسلامية من تفسير وحديث وفقه وأصوله ، أما في مجال العقيدة فقدا بدا شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كثير الاستفادة من مؤلفاتهما والأخذ عنها ، هذا إلى جانب استيعابه لكثير من مصادر التاريخ والأدب واللغة والنحو والبيان المؤلفة في مختلف العصور الإسلامية

ولقد كان - رحمه الله - عميق الفهم سريع الحفظ لما يقرأ ، وقد مر بنا قول لشيخه يشيد فيه بتلميذه حافظ ، الذي كان يحفظ بقلبه وخطه - على حد تعبير الشيخ - وكان زملاؤه الكبار يراجعونه في كل ما يشكل عليهم منذ
مراحل تعليمه الأولى

أدبه

يُعدُّ الشيخ حافظ من أجل علماء منطقة تهامة وأقدرهم على قول الشعر ، فقد كان يعشق الشعر منذ صغره ويحفظه ويقوله سليقة دون تكلف ، فلا غرابة إذ رأيناه يُخرج أكثر مؤلفاته نظماً

ولقد كان أكثر ما يقول الشعر - في غير ما كتبه من منظومات - إما نصيحة أو مساجلة لصديق أو وصفاً أو خاطرة ، إلا أنه لم يدون جلَّ ما قال إن لم يكن كله ، وما بأيدينا منه الآن نزر يسير جداً حفظه عنه بعض تلاميذه

ومن أهم قصائد شعر تلك الميمية التي أنشأها في الوصايا والآداب العلمية ، وهي طويلة جداً نختار منها هذه الأبيات التي يصف فيها العلم ومنزلته


العلم أغلى وأحلى ماله استمعتْ
أذُنٌ ، وأعرب عنه ناطق بفمِ


العلم غايته القصوى ورتبته الـ
ـعلياء فاسعوا إليه يا أوليالهمم


العلم أشرف مطلوب وطالبُه
لله أكرم من يمشي على قدم


العلم نور مبين يستضيء به
أهل السعادة والجهال في الظلم


العلم أعلى حياة للعباد ، كما
أهل الجهالة أموات بجهلهم


ثم يقول مرغباً في العلم ، وحاضاً طالبه على الحرص عليه ، والسعي قدر المستطاع لنيل أكبر قسط منه ، وعدم الرضا بغيره عوضاً عنه ، فمن حصل عليه فقد ظفر . ويوصي طلبة العلم بمساعدة غيرهم في تحصيله وتقريب مباحثه ، ويشير عليهم قبل ذلك كله بأن يخلصوا نياتهم - في طلبه - لوجه الله الكريم


يا طالب العلم لا تبغي بهبدلا
فقد ظفرت ورب اللوح والقلم


وقدِّس العلم واعرف قدر حرمته
في القول والفعل ، والآدابَفالتزم


لو يعلم المرء قدر العلملم ينم
واجهد بعزم قوي لا انثناء له


في السر والجهر والأستاذفاحترم
والنصحَ فابذله للطلاب محتسباً


وفيهمُ احفظ وصايا المصطفى بهم
ومرحباً قل لمن يأتيك يطلبه


إن البناء بدون الأصل لم يقُم
والنية اجعل لوجه الله خالص



وهناك أيضاً قصيدته الهمزية التي قالها في تشجيع الإسلام وأهله والدعوة إلى التمسك بأساسه وأصله ، وهي لا تزال مخطوطة لم تنشر من قبل ، وتقع في أكثر من مائتي بيت ، من بحر الكامل على رويِّ الهمزة . استعرض فيها ماضي المِسلمين وحاضرهم وما ينبغي أن يكونوا عليه في مستقبلهم ، كل ذلك بأسلوب قوي رصين ، وتعبير جزل ، بالإضافة إلى ما تفجَّر في جوانب أبياتها من شعور فياض ، ومعان سامية ، وأهداف نبيلة ، وروح عالية ؛ تحدث في أولها عن الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وقيامه بالدعوة إلى الله ، فقال


جميعهم بالنصر والإنجاء
ويعز ربي رسله والمؤمنين
أكرم به للرسل ختم بناء
حتى استتمَّ بناءهم بمحمد
ممن تُقِل بسيطة الغبراء
لم يقبض المولى تعالى روحه
ولخلقه أداه أيِّ أداء