وقوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذهب يميناً ولا شمالاً {وما طغى} ما جاوز ما أمر به, وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي, وما أحسن ما قال الناظم:
رأى جنة المأوى وما فوقها ولورأى غيره ما قد رآه لتاها
وقوله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} كقوله: {لنريك من آياتنا الكبرى} أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا, وبهاتين الاَيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع لأنه قال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس, وقد تقدم تقرير ذلك في سورة سبحان. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا محمد بن طلحة عن الوليد بن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة قال محمد أظنه عن ابن مسعود أنه قال: إن محمداً لم ير جبريل في صورته إلا مرتين: أما مرة فإنه سأله أن يريه نفسه في صورته فأراه صورته فسد الأفق, وأما الأخرى فإنه صعد معه حين صعد به, وقوله: {وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى} فلما أحَسّ جبريل ربه عز وجل عاد في صورته وسجد, فقوله: {ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: خلق جبريل عليه السلام, وهكذا رواه أحمد وهو غريب.
** أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّىَ * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الاُخْرَىَ * أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الاُنْثَىَ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىَ * إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَآءٌ سَمّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مّآ أَنَزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَمَا تَهْوَى الأنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مّن رّبّهِمُ الْهُدَىَ * أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنّىَ * فَلِلّهِ الاَخِرَةُ والاُولَىَ * وَكَمْ مّن مّلَكٍ فِي السّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىَ
يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان, واتخاذهم البيوت لها مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام {أفرأيتم اللات ؟} وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف, له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف, وهم ثقيف ومن تابعها, يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش, قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات, يعنون مؤنثة منه, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرأوا اللات بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق, فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقال البخاري: حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم, حدثنا أبو الأشهب, حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {اللات والعزى} قال: كان اللات رجلاً يلت السويق سويق الحجاج, قال ابن جرير: وكذا العزى من العزيز, وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة, وهي بين مكة والطائف, وكانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله, ومن قال لصاحبه تعالَ أقامرك فليتصدق» فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية, كما قال النسائي: أخبرنا أحمد بن بكار, وعبد الحميد بن محمد قالا: حدثنا مخلد, حدثنا يونس عن أبيه, حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: حلفت باللات والعزى, فقال لي أصحابي: بئس ما قلت! قلت هجراً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وانفث عن شمالك ثلاثاً, وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم لا تعد». وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة, وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه, وقد كان بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة. غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز, وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة. لها سدنة وحجاب وتهدى لها كما يهدى للكعبة, وتطوف بها كطوافها بها, وتنحر عندها, وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده: فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة, وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم, حلفاء بني هاشم, قلت: بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول:
يا عزى كفرانك لا سبحانكإني رأيت الله قد أهانك
وقال النسائي: أخبرنا علي بن المنذر, أخبرنا ابن فضيل, حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة, وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات, فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها, ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئاً» فرجع خالد, فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون: يا عزى, يا عزى, فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها, فغمسها بالسيف حتى قتلها, ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال «تلك العزى!».
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف, وكان سدنتها وحجابها بني معتب. قلت: وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة, وأبا سفيان صخر بن حرب, فهدماها وجعلا مكانها مسجداً بالطائف. قال ابن إسحاق: كانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها, ويقال علي بن أبي طالب قال: وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة, ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. قلت: وكان يقال لها الكعبة اليمانية, وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية, فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه, قال: وكانت فَلْس لطيء ومن يليها بجبل طيء من سلمى وأجا, قال ابن هشام: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه, واصطفى منه سيفين: الرسوب والمخذْم, فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق: وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام, وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت. قال ابن إسحاق: وكانت رضاء بيتاً لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم, ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإ
ولقد شددت على رضاء شدةقتركتها قفراً بقاع أسمحا
قال ابن هشام: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل:
ولقد سئمت من الحياة وطولهاوعمرت من عدد السنين مئينامائة حدتها بعدها مائتان ليوعمرت من عدد الشهور سنيناهل ما بقي إلا كما قد فاتنايوم يمر وليلة تحدونا
وقال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد, وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بين الخورنق والسدير وبارقوالبيت ذو الكعبات من سنداد
ولهذا قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ؟} ثم قال تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى ؟} أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى, وتختارون لأنفسكم الذكور, فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت {قسمة ضيزى} أي جوراً باطلة, فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جوراً وسفهاً, وقال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي من تلقاء أنفسكم {ما أنزل الله بها من سلطان} أي من حجة {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم, وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة, ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له.
يتبع ..