ثم قال تعالى: {أم للإنسان ما تمنى} أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال, ولا كل من ود شيئاً يحصل له. قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى, فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» تفرد به أحمد. وقوله: {فلله الاَخرة والأولى} أي إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والاَخرة والمتصرف في الدنيا والاَخرة, فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} كقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين, فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله, وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها, بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟)
** إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ لَيُسَمّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الاُنْثَىَ * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنّ الظّنّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقّ شَيْئاً * فَأَعْرِضْ عَن مّن تَوَلّىَ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىَ
يقول تعالى منكراً على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى, وجعلهم لها أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} ولهذا قال تعالى: {وما لهم به من علم} أي ليس لهم علم صحيح يُصَدّق ما قالوه, بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع.{إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق, وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
وقوله تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا} أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره. وقوله: {ولم يرد إلا الحياة الدنيا} أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا, فذاك هو غاية ما لا خير فيه, ولهذا قال تعالى: {ذلك مبلغهم من العلم} أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه. وقد روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له, ومال من لا مال له, ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ عملنا» وقوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} أي هو الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده, وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل الذي لا يجور أبداً لا في شرعه ولا في قدره.
** وَلِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى * الّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاّ اللّمَمَ إِنّ رَبّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنّةٌ فِي بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض, وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} أي يجازي كلاً بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش, أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الاَية الأخرى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} وقال ههنا: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} وهذا استثناء منقطع, لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر, وزنا اللسان النطق, والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن ثور, حدثنا معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العينين النظر, وزنا الشفتين التقبيل, وزنا اليدين البطش, وزنا الرجلين المشي, ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه, فإن تقدم بفرجه كان زانياً وإلا فهو اللمم, وكذا قال مسروق والشعبي. وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له: ابن لبابة الطائفي قال: سألت أبا هريرة عن قول الله: {إلا اللمم} قال: القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة, فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل, وهو الزنا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إلا اللمم} إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الاَية: {إلا اللمم} قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه, قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جماوأي عبد لك ما ألما ؟
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى: {إلا اللمم} قال: الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه. قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جماوأي عبد لك ما ألما ؟
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعاً قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار, حدثنا أبو عاصم, حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} قال: هو الرجل الذي يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن تغفر اللهم تغفر جماوأي عبد لك ما ألما ؟
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم قال: هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق, وكذا قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا من هذا الوجه, وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل, وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل, وفي صحته مرفوعاً نظر. ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيغ, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} قال: اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود, واللمم من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود, قال: فذلك الإلمام, وحدثنا ابن بشار, حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود إليه.
وحدثني يعقوب, حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول الله: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس {إلا اللمم} يلم بها في الحين قلت: الزنا ؟ قال: الزنا ثم يتوب. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا أبو كريب, حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اللمم, الذي يلم المرة. وقال السدي: قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت: هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب, وأخبرت بذلك ابن عباس فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم, حكاه البغوي وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح ـ وهو ضعيف ـ عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال: اللمم ما دون الشرك, وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير {إلا اللمم} قال: ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الاَخرة, وكذا رواه شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {إلا اللمم} كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الاَخرة, تكفره الصلوات فهو اللمم, وهو دون كل موجب, فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا, وأما حد الاَخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الاَخرة. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك.
يتبع ..