وقوله تعالى: {إن ربك واسع المغفرة} أي رحمته وسعت كل شيء ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها كقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} وقوله تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض} أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم, وتقع منكم حين أنشأ أباكم من الأرض, واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين: فريقاً للجنة وفريقاً للسعير. وكذا قوله: {وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ؟ قال مكحول: كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط, وكنا فيمن بقي ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك, وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك, وكنا فيمن بقي ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك, وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فماذا بعد هذا ننتظر ؟ رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم {هو أعلم بمن اتقى} كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً}. وقال مسلم في صحيحه: حدثنا عمرو الناقد, حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا: بمَ نسميها ؟ قال: «سموها زينب» وقد ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مراراً ـ إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً, أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك» ثم رواه عن غندر عن شعبة عن خالد الحذاء به, وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه من طرق عن خالد الحذاء به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا: أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه قال: فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب. ورواه مسلم وأبو داوود من حديث الثوري عن منصور به.


** أَفَرَأَيْتَ الّذِي تَوَلّىَ * وَأَعْطَىَ قَلِيلاً وَأَكْدَىَ * أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىَ * أَمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىَ * وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّىَ * أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ * وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ * وَأَنّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىَ * ثُمّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأوْفَىَ
يقول تعالى ذاماً لمن تولى عن طاعة الله: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى} {وأعطى قليلاً وأكدى} قال ابن عباس: أطاع قليلاً ثم قطعه, وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وغير واحد. قال عكرمة وسعيد: كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئراً, فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل.
وقوله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى ؟} أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق وقطع معروفه, أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عياناً ؟ أي ليس الأمر كذلك. وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً, ولهذا جاء في الحديث «أنفق بلالاً ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً» وقد قال الله تعالى {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}

يتبع ..