كلام بديعٌ لابن القيم في المصائب، وعلاج حرِّها وحزنها!
فصلٌ: في هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في علاج حر المصيبة وحزنها
قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155].
وفي "المسند" عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما من أَحَدٍ تصيبُه مصِيبَةٌ؛ فيقولُ: إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُونَ، اللهم أجرنِي في مُصيبَتى وأخلفْ لي خيرًا منهَا؛ إلا أجاَرَه الله في مصِيبَتِهِ، وأخلفَ لهُ خَيرًا منها"[1].
وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملكٌ لله -عز وجل- حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.
وأيضًا فإنه محفوف بِعَدَمينِ: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعةٌ معارة في زمنٍ يسير.
وأيضًا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي.
وأيضًا فإنه متصرفٌ فيه بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أنَّ مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلِّف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولاعشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود؟! ففكره فى مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء
ومن علاجه: أن يعلم علم اليقين أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا، إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22].
ومن علاجه: أن ينظر إلى ما أُصيبَ به؛ فيجد ربَّه قد
أبقى عليه مثله، أو أفضل منه.
وادَّخر له إن صبرَ ورضِىَ ما هو أعظمُ من فوات تِلك المصيبةِ بأضعافٍ مُضاعفة.
وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هى.
ومن عِلاجه: أن يُطفئَ نارَ مصيبته ببرد التأسِّى بأهل المصائب.
وليعلم أنه فى كل وادٍ بنو سعد؛ ولينظر يَمْنةً، فهل يرى إلا مِحنةً؟
ثم ليعطف يَسْرةً، فهل يرى إلا حسرةً؟
وأنَّه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه.
وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكتْ قليلاً، أبكتْ كثيراً، وإن سَرَّتْ يوماً، ساءتْ دهراً، وإن مَتَّعتْ قليلاً، منعت طويلاً، وما ملأت دارًا خيرةً إلا ملأتها عَبْرة، ولا سرَّته بيومِ سرور إلا خبأتْ له يومَ شرور.
قال ابن مسعود -رضى الله عنه-: "لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِىءَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِىءَ تَرحًا".
وقال ابن سيرين: "ما كان ضحكٌ قَطٌ إلا كان من بعده بُكاء".
وقالت هند بنت النُّعمان: لقد رأيتُنا ونحن مِن أعزِّ الناس وأشدِّهم مُلكاً، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وأنه حقٌ على الله ألا يملأ داراً خَيْرة إلا ملأها عَبرة.
وسألها رجلٌ أن تُحَدِّثه عن أمرها؛ فقالت: أصبحنا ذا صباح، وما فى العرب أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما فى العرب أحد إلا يرحمُنا.
وبكت أختها حُرقَةُ بنت النُّعمان يومًا، وهى فى عِزِّها، فقيل لها: ما يُبكيكِ، لعل أحدًا آذاك؟ قالت: لا، ولكن رأيتُ غَضارة فى أهلى، وقلَّما امتلأت دارٌ سروراً إلا امتلأت حُزنًا.
قال إسحاق بنُ طلحة: دخلتُ عليها يومًا، فقلتُ لها: كيف رأيتِ عبراتِ الملوك؟
فقالت: ما نحنُ فيه اليومَ خيرٌ مما كنا فيه الأمس، إنَّا نجِدُ فى الكتب أنه ليس مِن أهل بيت يعيشون فى خيْرة إلا سيُعقَبون بعدها عَبرة، وأنَّ الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بَطَن لهم بيوم يكرهونه، ثم قالت:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لاَ يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجزع لا يردها، بل يُضاعفها، وهو فى الحقيقة من تزايد المرض.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاةُ والرحمة والهداية التى ضمِنَها الله على الصبر والاسترجاع، أعظمُ مِن المصيبة فى الحقيقة.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ الجَزَعَ يُشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضب ربه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجره، ويُضعف نفسه، وإذا صبرَ واحتسب أنضى شيطانه، وردَّه خاسئاً، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزَّاهم هو قبل أن يُعَزُّوه. فهذا هو الثَّباتُ والكمال الأعظم؛ لا لطمُ الخدودِ، وشقُّ الجيوب، والدعاءُ بالوَيْل والثُّبور، والسخَطُ على المقدور.
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنَّ ما يُعقبه الصبرُ والاحتساب من اللَّذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يحصُل له ببقاء ما أُصيبَ به لو بقى عليه، ويكفيه من ذلك بيتُ الحمد الذى يُبنى له فى الجنَّة على حمدِهِ لربِّه واسترجاعه؛ فلينظرْ: أىُّ المصيبتين أعظمُ؟ مصيبةُ العاجلة، أو مصيبةُ فواتِ بيتِ الحمد فى جنَّة الخلد؟
وفى الترمذى مرفوعاً: "يَوَدُّ ناسٌ يَوْمَ القيامة أنَّ جُلُودَهُم كانت تُقْرَضُ بالمقارِيض فى الدُّنيا لما يَرَوْنَ من ثوابِ أهلِ البلاءِ".[2]
وقال بعضُ السَّلَف: "لولا مصائبُ الدنيا لورَدْنا القيامة مفاليس".
ومِن عِلاجها: أن يُرَوِّح قلبه برَوْح رجاء الخَلَفِ مِن الله، فإنَّه من كُلِّ شىء عِوَض إلا الله، فما مِنه عِوَضٌ؛ كما قيل:
مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ اللهِ إنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
ومن عِلاجها: أن يعلم أنَّ حظه من المصيبة ما تُحدثه له، فمن رضى، فله الرِّضى، ومن سخِط، فله السَّخَط، فحظُّك منها ما أحدثته لك، فاختر خيرَ الحظوظ أو شرَّها؛
فإن أحدثت له سخطًا وكفرًا؛ كُتِب فى ديوان الهالكين.
وإن أحدثت له جزعاً وتفريطاً فى ترك واجب، أو فى فعل مُحَرَّم، كُتِبَ فى ديوان المفرِّطين.
وإن أحدثتْ له شكايةً وعدم صبرٍ؛ كُتِبَ فى ديوان المغبونين.
وإن أحدثتْ له اعتراضًا على الله، وقدحًا فى حكمته؛ فقد قرع باب الزندقة أو ولَجه.
وإن أحدثت له صبرًا وثباتًا لله، كُتِبَ فى ديوان الصابرين.
وإن أحدثت له الرِّضى عن الله، كُتِبَ فى ديوان الراضين.
وإن أحدثت له الحمدَ والشكرَ، كُتِبَ فى ديوان الشاكرين، وكان تحتَ لواء الحمد مع الحمَّادين.
وإن أحدثت له محبةً واشتياقاً إلى لقاء ربه، كُتِبَ فى ديوان المُحبِّين المخلصين.
وفى "مسند الإمام أحمد" والترمذىِّ، من حديثِ محمود بن لبيد يرفعه: "إنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتلاهُم، فمَن رَضِىَ فَلَهُ الرِّضى، ومَن سَخِط فَلَهُ السُّخْطُ". زاد أحمد: "ومَن جَزِع فَلَهُ الجَزَعُ"[3].
ومِن عِلاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فى الجَزَع غايتَه، فآخِرُ أمره إلى صبر الاضطرار، وهو غيرُ محمود ولا مُثاب.
قال بعض الحكماء: العاقلُ يفعل فى أوَّل يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومَن لم يصبْر صَبْرَ الكِرَام، سلا سُلُوَّ البهائم
يتبع