عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات ) [هود: 114]. فقال الرجل : ألي هذا يا رسول الله ؟ قال : (( لجميع أمتي كلهم )) متفق عليه .
وعن أنس رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصبت حداً ، فأقمه علي ، وحضرت الصلاة ، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال : يا رسول الله ، إني أصب حداً، فأقم فيَّ كتاب الله. قال: (( هل حضرت معنا الصلاة ؟ قال : نعم قد غُفِر لك )) متفق عليه .
وقوله : أصبت حداً معناه : معصية توجب التعزير ، وليس المراد الحد الشرعي الحقيقي ؛ كحد الزنا والخمر وغيرهما ، فإن هذه الحدود لا تسقط بالصلاة ، ولا يجوز للإمام تركها .
وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة ، فيحمده عليها )) رواه مسلم .
الأكلة بفتح الهمزة وهي المرة الواحدة من الأكل : كالغدوة والعشوة , والله أعلم
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عله وسلم قال : (( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها )) رواه مسلم .
وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة ـ بفتح العين والباء ـ السلمي رضي الله عنه قال : (( كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة ، وأنهم ليسوا على شيء ، وهم يعبدون الأوثان ، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً ، فقعدت على راحلتي ، فقدمت عليه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً ، جُرآءُ عليه قومه ، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة ، فقلت له : ما أنت قال : أنا نبي .
قلت : وما نبي ؟ قال : أرسلني الله .
قلت : وبأي شيء أرسلك ؟ قال : أرسلني بصلة الأرحام ، وكسر الأوثان ، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء .
قلت : فمن معك على هذا ؟
قال : حر وعبد . ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما قلت : إني متبعك ، قال : إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا ، ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني .
قال : فذهبت إلى أهلي ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكنت في أهلي ، فجعلت أتخبر الأخبار ، وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم نفر من أهلي المدينة ، فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا : الناس إليه سراع ، وقد أراد قومه قتله ، فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة، فدخلت عليه ، فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟
قال نعم أنت الذي لقيتني بمكة . قال : فقلت : يا رسول الله ،أخبرني عما علمك الله وأجهله ، أخبرني عن الصلاة ؟
قال صل صلاة الصبح ، ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح ، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل ، فإن الصلاة مشهودة محضورة ، حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة ، فإنه حينئذ تسجر جنهم ؛ فإذا أقبل الفيء فصل ؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة ، حتى تصلي العصر ، ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار .
قال : فقلت : يا نبي الله ، فالوضوء حدثني عنه .
فقال : ما منكم رجل يقرب وضوءه ، فيتمضمض ويستنشق فينتثر ، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله ، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح رأسه ، إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين ، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن هو قام فصلى ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل ، وفرَغ قلبه لله تعالى ، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه )) .
فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله ، فقال له أبو أمامة : يا عمرو بن عبسة ، انظر ما تقول ! في مقام واحد يعطى هذا الرجل ؟ فقال عمرو : يا أبا أمامة ، لقد كبرت سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله تعالى ، ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين أو ثلاثا ، حتى عد سبع مرات ، ما حدثت أبداً به ، ولكني سمعته أكثر من ذلك . رواه مسلم .
قوله : جُرآء عليه قومه : هو بجيم مضمومة وبالمد على وزن علماء ، أي : جاسرون مستطيلون غير هائبين . هذه الرواية المشهورة ، ورواه الحميدي وغيره : حِراء بكسر الحاء المهملة ، وقال : معناه : غِضاب ذوو غم وهم ، قد عيل صبرهم به ، حتى أثر في أجسامهم ، من قولهم : حري جسمه يحرى ، إذا نقص من ألم أو غم ونحوه ، والصحيح أنه بالجيم .
قوله صلى الله عليه وسلم : بين قرني الشيطان أي : ناحيتي رأسه ، والمراد التمثيل ، معناه : أنه حينئذ يتحرك الشيطان وشيعته ، ويتسلطون .
قوله : يقرب وضوءه معناه : يحضر الماء الذي يتوضأ به .
وقوله : إلا خرت خطاياه هو بالخاء المعجمة : أي سقطت ، وراء بعضهم (( جرت ) بالجيم ، والصحيح بالخاء ، وهو رواية الجمهور .
قوله : فينتثر أي : يستخرج ما في أنفه من أذى ، والنثرة : طرف الأنف .
الـشـرح
هذه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله كلها أيضاً فيها من الرجاء ما فيها ، فمن ذلك أن الصلوات الخمس تكفر السيئات التي قبلها ، كما في قصة الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة ، والذي أصاب حداً وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيمه عليه ، فإن الصلاة هي أفضل أعمال البدن وهي تذهب السيئات ، قال الله تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114] .
ولكن لابد أن تكون الصلاة على الوجه الذي يرضاه الله عز وجل ، كما في حديث عمرو بن عبسة حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ وأرشده إلى أن لها لأوقات محدودة ، وهناك أوقات ينهى الإنسان أن يصلي فيها .
ثم أرشد النبي صلى اله عليه وسلم عمرو بن عبسة إلى صفة الوضوء الصحيحة ؛ لأن الإنسان إذا توضأ على هذه الصفة خرجت خطاياه ، وإذا صلى وقد فرغ قلبه لله كفر الله عنه .
فلابد من ملاحظة هذا القيد ؛ لأن من الناس من يصلي ولكنه ينصرف من صلاته ما كتب له إلا عشرها أو أقل ؛ لأن قلبه غافل وكأنه ليس في صلاة ؛ بل كأنه يبيع ويشتري أو يعمل أعمالاً أخرى حتى تنتهي الصلاة .
ومن وساوس الشيطان أن الإنسان يصلي فإذا كبر للصلاة ؛ انفتحت عليه الهواجس من كل مكان ، فإذا سلم زالت عنه ، مما يدل على أن هذا من الشيطان ، يريد أن يخرب عليه صلاته حتى يحرم من هذا الأجر العظيم .
وفي حديث عمرو بن عبسة فوائد كثيرة منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ غريباً خائفاً متخفياً عليه الصلاة والسلام ، جاءه عمرو بن عبسة وقد رأى ما عليه أهل الجاهلية وأنهم ليسوا على شيء ، فصار يتطلب الدين الصحيح الموافق للفطرة ، حتى سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة ، فجاء إليه ، فوجده مستخفياً في بيته ، لم يتبعه إلا حر وعبد ـ أبو بكر وبلال ـ لم يتبعه أحد ، وفي هذا دليل على أن أبا بكر رضي الله عنه أول من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم آمن بعده من الأحرار على بن أبي طالب رضي الله عنه .
ومن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرو : (( إنك لا تستطيع أن تعلن إسلامك في هذا اليوم ، ولكن اذهب فإذا سمعت أني خرجت فأتني )) فذهب وأتى إليه بعد نحو ثلاثة عشرة سنة في المدينة ، بعد أن هاجر وقال له : أتعرفني ؟ قال (( نعم )) . وأخبره أنه يعرفه ، لم ينس طوال هذه المدة .
ثم أخبره مما يجب عليه لله عز وجل من حقوق ، وبين له أن الإنسان إذا توضأ وأحسن الوضوء ؛ خرجت خطاياه من جميع أعضائه ، وأنه إذا صلى فإن هذه الصلاة تكفر عنه ، فدل ذلك على أن فضل الله عز وجل أوسع من غضبه ، وأن رحمته سبقت غضبه . نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته إنه جواد كريم .