الصيام

الآية الثانية :
)أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:184)

ذكر الشيخ ابن عثيمين في تفسيره الفوائد المستنبطة من هذه الآية فقال :

1 ــــ من فوائد الآية: أن الصوم أيامه قليلة؛ لقوله تعالى: أياماً معدودات ].

2 ــــ ومنها: التعبير بكلمات يكون بها تهوين الأمر على المخاطب؛ لقوله تعالى: أياماً معدودات .

3 ــــ ومنها: رحمة الله بعباده؛ لقلة الأيام التي فرض عليهم صيامها.

4 ــــ ومنها: أن المشقة تجلب التيسير؛ لقوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ؛ لأن المرض، والسفر مظنة المشقة.

5 ــــ ومنها: جواز الفطر للمرض؛ ولكن هل المراد مطلق المرض - وإن لم يكن في الصوم مشقة عليه؛ أو المراد المرض الذي يشق معه الصوم، أو يتأخر معه البرء؟ الظاهر الثاني؛ وهو مذهب الجمهور؛ لأنه لا وجه لإباحة الفطر بمرض لا يشق معه الصوم، أو لا يتأخر معه البرء؛ هذا وللمريض حالات:

الأولى: أن لا يضره الصوم، ولا يشق عليه؛ فلا رخصة له في الفطر.

الثانية: أن يشق عليه، ولا يضره؛ فالصوم في حقه مكروه؛ لأنه لا ينبغي العدول عن رخصة الله.

الثالثة: أن يضره الصوم؛ فالصوم في حقه محرم؛ لقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً [النساء: 29] .

6 ــــ ومن فوائد الآية: جواز الفطر في السفر؛ لقوله تعالى: أو على سفر فعدة من أيام أخر ؛ وللمسافر باعتبار صومه في سفره حالات ثلاث:

الأولى: أن لا يكون فيه مشقة إطلاقاً؛ يعني: ليس فيه مشقة تزيد على صوم الحضر؛ ففي هذه الحال الصوم أفضل؛ وإن أفطر فلا حرج؛ ودليله أن الرسول كان يصوم في السفر، كما في حديث أبي الدرداء قال: «خرجنا مع رسول الله (ص) في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ؛ وما فينا صائم إلا ما كان من النبي وابن رواحة»(1)؛ ولأن الصوم في السفر أسرع في إبراء ذمته؛ ولأنه أسهل عليه غالباً لكون الناس مشاركين له، وثقلِ القضاء غالباً؛ ولأنه يصادف شهر الصوم - وهو رمضان.

الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة؛ فهنا الأفضل الفطر؛ والدليل عليه أن النبي كان في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظُلل عليه، فسأل عنه، فقالوا: صائم؛ فقال (ص): «ليس من البر الصيام في السفر»(1)؛ فنفى النبي البر عن الصوم في السفر.

فإن قيل: إن من المتقرر في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وهذا يقتضي نفي البر عن الصوم في السفر مطلقاً؟.

فالجواب: أن معنى قولنا: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» يعني أن الحكم لا يختص بعين الذي ورد من أجله؛ وإنما يعم من كان مثل حاله؛ وقد نص على هذه القاعدة ابن دقيق العيد في شرح الحديث في العمدة؛ وهو واضح.

الحال الثالثة: أن يشق الصوم على المسافر مشقة شديدة؛ فهنا يتعين الفطر؛ ودليله: ما ثبت في الصحيح أن الرسول كان في سفر، فشُكي إليه أن الناس قد شق عليهم الصيام وإنهم ينتظرون ما يفعل؛ فدعا بماء بعد العصر، فشربه، والناس ينظرون؛ ثم جيء إلى النبي ، وقيل له: إن بعض الناس قد صام فقال (ص): «أولئك العصاة! أولئك العصاة!»(2)؛ والمعصية لا تكون إلا في فعل محرم؛ أو ترك واجب.

7 ــــ ومن فوائد الآية: أن السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف: فما عده الناس سفراً فهو سفر؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل.

8 ــــ ومنها: أن المتهيئ للسفر كالخارج فيه ــــ وإن كان في بلده؛ فإنه يجوز أن يفطر؛ وكان أنس بن مالك يفعل ذلك، ويقول: «السنة»(3)؛ لكن هذا الحديث فيه مقال؛ على ذلك.

9 ــــ ومن فوائد الآية: أن الظاهرية استدلوا بها على أن من صام في السفر لم يجزئه؛ لقوله تعالى: فعدة من أيام أخر ، فأوجب الله على المريض، والمسافر عدة من أيام أخر؛ فمن صام وهو مريض، أو مسافر صار كمن صام قبل دخول رمضان، وقالوا: «إن الآية ليست فيها شيء محذوف»؛ وهذا القول لولا أن السنة بينت جواز الصوم لكان له وجه قوي؛ لأن الأصل عدم الحذف؛ لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الحذف متعين، وتقدير الكلام: فمن كان مريضاً، أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر؛ لأن النبي صام في رمضان في السفر والصحابة معه منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب أحد على أحد(4)؛ ولو كان الصوم حراماً ما صامه النبي ، ولأنكر المفطر على الصائم.

10 ــــ ومن فوائد الآية: أنه لو صام عن أيام الصيف أيام الشتاء فإنه يجزئ؛ لقوله تعالى: فعدة من أيام أخر وجهه: أن أيام نكرة.

11 ــــ ومنها: حكمة الله في التدرج بالتشريع، حيث كان الصيام أول الأمر يخير فيه الإنسان بين أن يصوم، ويطعم؛ ثم تعين الصيام كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع .

12 ــــ ومنها: أن من عجز عن الصيام عجزاً لا يرجى زواله فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً؛ ووجه الدلالة أن الله جعل الإطعام عديلاً للصيام حين التخيير بينهما؛ فإذا تعذر الصيام وجب عديله؛ ولهذا ذكر ابن عباس أن هذه الآية في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصيام، فيطعمان عن كل يوم مسكيناً(1).

13 ــــ ومنها: أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف.

14 ــــ ومنها: أنه لا فرق بين أن يملّك الفقير ما يطعمه، أو يجعله غداءً، أو عشاءً؛ لأن الكل إطعام؛ وكان أنس بن مالك حين كبر يطعم أدُماً، وخبزاً(2).

15 ــــ ومنها: أن ظاهر الآية لا يشترط تمليك الفقير ما يطعم؛ وهو القول الراجح؛ وقال بعض أهل العلم: إنه يشترط تمليكه؛ فيعطى مداً من البر؛ أو نصف صاع من غيره؛ وقيل: يعطى نصف صاع من البر، وغيره؛ واستدل القائلون بالفرق بين البر وغيره بما قاله معاوية في زكاة الفطر: «أرى المد من هذه - يعني البر - يعدل مدين من الشعير»(3) فعدل به الناس، وجعلوا الفطرة من البر نصف صاع(4)؛ واستدل القائلون بوجوب نصف صاع من البر، وغيره بحديث كعب بن عجرة حين أذن له النبي بحلق رأسه وهو محرم أن النبي قال له مبيناً المجمل في قوله تعالى: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [البقرة: 196] ، فقال في الصدقة: «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع»(5)؛ ولم يفرق النبي بين طعام وآخر.

16 ــــ ومن فوائد الآية: أن طاعة الله ــــ ــــ كلها خير؛ لقوله تعالى: فمن تطوع خيراً فهو خير له .

17 ــــ ومنها: ثبوت تفاضل الأعمال؛ لقوله تعالى: وأن تصوموا خير لكم ؛ وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ فينبني على ذلك أن الناس يتفاضلون في الأعمال؛ وهو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والواقع؛ قال الله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى [الحديد: 10] ، وقال تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًّا وعد الله الحسنى وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة [النساء: 95، 96] ؛ والنصوص في هذا كثيرة.

18 ــــ ومن فوائد الآية: التنبيه على فضل العلم؛ لقوله تعالى: إن كنتم تعلمون .