التَّحْذِيرُ مِنَ الوُقُوعِ في المَشَايِخ وطَلَبَةِ العِلْمِ وانْتِقَادِهِم
السُّؤَالُ: هُنَاكَ أُنَاسٌ يَتَكَلَّمُونَ في المَشَايِخ ويَنْقَدِوُنَهُم مِنْ بَابِ أنَّهُم لَيْسُوا أنْبِيَاء ولا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَهُمْ لَيْسُوا فَوْقَ مُسْتَوَى النَّقْد في رَأيِهِم، حَيْثُ أنَّهُم بَشَر ويُخْطِئُونَ ومِنْ حَقِّ العَامَّة انْتِقَادهم. فَمَا تَوْجِيه فَضِيلَتكُم جَزَاكُم اللهُ خَيْرًا.
الجَوَابُ:
الحَمْدُ للهِ؛
أوَّلاً: لا شَكَّ أنَّ الأصْلَ العَامَّ هُوَ حُرْمَة المُسْلِم، والحِفَاظُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ المُهِمَّاتِ المُؤَكَّدَةِ في الدِّينِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ: لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ] رَوَاهُ مُسْلِمُ.
وفي أعْظَم جَمْعٍ اجْتَمَعَ حَوْلَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في حِجَّةِ الوَدَاع الَّتِي حَجَّهَا بأصْحَابِهِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا؛ لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ ] مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ثَانِيًا: إذا تَعَلَّقَ الأمْرُ بأهْلِ العِلْمِ والكَلاَمِ فيهم، فَالأمْرُ فيهم أشَدّ، والتَّبِعَةُ أجَلّ وأعْظَم. ومَا أحْسَنَ مَا قَالَ أبُو القَاسِم ابْن عَسَاكِر رَحِمَهُ اللهُ [ اعْلَم يَا أخِي -وَفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكَ لمَرْضَاتِهِ، وجَعَلَنَا مِمَّنْ يَخْشَاهُ ويَتَّقِيهِ حَقَّ تُقَاتِهِ- أنَّ لُحُومَ العُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهم مَسْمُومَةٌ، وعَادَةَ اللهِ في هَتْكِ أسْتَار مُنْتَقِصِيهم مَعْلُومَةٌ؛ لأنَّ الوَقِيعَةَ فيهم بِمَا هُمْ مِنْهُ بَرَاء أمْرُهُ عَظِيمٌ، والتَّنَاوُلَ لأعْرَاضِهِم بالزُّورِ والافْتِرَاءِ مَرْتَعٌ وَخِيمٌ، والاخْتِلاَقَ عَلَى مَنِ اخْتَارَهُ اللهُ مِنْهُم لنَشْرِ العِلْمِ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، والاقْتِدَاءَ بِمَا مَدَحَ اللهُ بِهِ قَوْل المُتَّبِعِينَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ لِمَنْ سَبَقَهُم وَصْفٌ كَرِيمٌ، إذْ قَالَ مُثْنِيًا عَلَيْهم في كِتَابِهِ وهُوَ بمَكَارِم الأخْلاَق وضِدِّهَا عَلِيمٌ (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحَشْرُ: 10)، والارْتِكَابَ لنَهْي النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنِ الاغْتِيَابِ وسَبِّ الأمْوَاتِ جَسِيمٌ، فَلْيَحْذَر الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُم فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ ألِيمٌ ] تَبْيِينُ كَذِبِ المُفْتَرِي (ص 29-30).
والآيَةُ السَّابِقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا أبُو القَاسِم ابْن عَسَاكِر رَحِمَهُ اللهُ وإنْ كَانَت تَذْكُرُ دُعَاءَ المُؤْمِنِينَ الخَالِفِينَ لِمَنْ سَبَقَهُم مِنْ أصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَالأدَبُ الَّذِي فِيهَا عَامٌّ لكُلِّ تَابِعٍ في الخَيْرِ مَعَ مَنْ سَبَقَهُ. قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ [ المَعْنَى المُقْتَضِي لذَلِكَ يَعُمُّ الصَّحَابَة، وسَائِر طَبَقَات الأُمَّة، إذْ كُلّ طَبَقَةٍ مُتَأخِّرَةٍ يَنْبَغِي أنْ تَسْتَعْمِلَ مَعَ الطَّبَقَةِ المُتَقَدِّمَةِ مَعْنَى هذه الآيَة ] جَوَابُ الاعْتِرَاضَاتِ المِصْرِيَّةِ عَلَى الفِتْيَا الحَمْوِيَّة (161).
وقَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِي رَحِمَهُ اللهُ[ وهذا دُعَاءٌ شَامِلٌ لجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ، مِنَ الصَّحَابَةِ ومَنْ قَبْلهُم ومَنْ بَعْدهُم. وهذا مِنْ فَضَائِل الإيِمَانِ: أنَّ المُؤْمِنِينَ يَنْتَفِعُ بَعْضُهُم ببَعْضٍ، ويَدْعُو بَعْضُهُم لبَعْضٍ، بسَبَبِ المُشَارَكَةِ في الإيِمَانِ المُقْتَضِي لعَقْدِ الأُخُوَّة بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، الَّتِي مِنْ فُرُوعِهَا أنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُم لبَعْضٍ، وأنْ يُحِبَّ بَعْضُهُم بَعْضًا. ولهذا ذَكَرَ اللهُ في الدُّعَاءِ نَفْي الغِلّ عَنِ القَلْبِ، الشَّامِل لقَلِيلِ الغِلّ وكَثِيرِهِ، الَّذِي إذا انْتَفَى ثَبتَ ضِدّهُ، وهُوَ المَحَبَّة بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والمُوَالاَة والنُّصْح ونَحْو ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ المُؤْمِنِينَ ] تَفْسِيرُ السَّعْدِي (851).
وقَدْ قَالَ ابْنُ المُبَارَك رَحِمَهُ اللهُ [ مَنِ اسْتَخَفَّ بالعُلَمَاءِ ذَهَبَت آخِرَتهُ ] سِيَرُ أعْلاَمِ النُّبَلاَء (8/408).
وقَالَ الطَّحَاوِيّ رَحِمَهُ اللهُ في عَقِيدَتِهِ (57) [ وعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ ومَنْ بَعْدهُم مِنَ التَّابِعِينَ أهْلُ الخَيْرِ والأثَرِ وأهْلُ الفِقْهِ والنَّظَرِ لا يُذْكَرُونَ إلاَّ بالجَمِيلِ، ومَنْ ذَكَرَهُم بسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ ].

ثَالِثًا:لا يَعْنِي ذَلِكَ أنَّ أُولَئِكَ العُلَمَاء مَعْصُومُونَ مِنَ الخَطَأ، أو أنَّهُ لا يُرَدُّ عَلَيْهم مَا أخْطَئُوا فِيهِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الرَّدُّ عَلَيْهم بأدَبِهِ؛ فَلاَ يُهْدَر صَوَابهم وخَيْرهم لأجْلِ خَطَأ أخْطَأ فِيهِ الوَاحِدُ مِنْهُم، ولا يَكُون الدَّافِع إلى ذَلِكَ جَهْل أو هَوَى أو عَصَبِيَّة؛ ثُمَّ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدّ عَلَيْهم والبَحْث مَعَهُم: هُوَ مَنْ تَأهَّلَ لذَلِكَ مِنْ أهْلِ العِلْم الثِّقَات، الَّذِي يُحْسِن أنْ يَزِنَ الأُمُور بمِيزَانِ الشَّرْع، فَلاَ وَكَسَ ولا شَطَطَ.
قَالَ شَيْخُ الإسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّة رَحِمَهُ اللهُ [ فَالمُؤْمِنُ يَجْمَعُ بَيْنَ القِيَامِ بحَقِّ اللهِ، بمَعْرِفَةِ دِينِهِ، والعَمَلِ بِهِ، وحُقُوقِ المُؤْمِنِينَ، مُتَقَدِّمِيهِم ومُتَأخِّرِيهِم، بالاسْتِغْفَارِ وسَلاَمَةِ القُلُوب. فَإنَّ مَنْ كَانَ لَهُ لِسَان صِدْقٍ -بَلْ ومَنْ هُوَ دُونَهُ- إذا صَدَرَ مِنْهُ مَا يَكُون مُنْكَرًا في الشَّرْعِ؛ فَإمَّا أنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُ خَطَأهُ، وإمَّا أنْ يَكُونَ مَغْمُورًا بحَسَنَاتِهِ، وإمَّا أنْ يَكُونَ قَدْ تَابَ مِنْهُ. بَلْ مَنْ هُوَ مِنْ دُونِ هَؤُلاَءِ، إذا فَعَلَ سَيِّئَةً عَظِيمَةً، فَاللهُ يَغْفِرُهَا لَهُ؛ إمَّا بتَوْبَةٍ، وإمَّا باسْتِغْفَارِهِ، وإمَّا بحَسَنَاتِهِ المَاحِيَة، وإمَّا بالدُّعَاءِ لَهُ، والشَّفَاعَة فِيهِ، والعَمَل الصَّالِح المُهْدَى إلَيْهِ، وإمَّا أنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بمَصَائِب الدُّنْيَا، أو البَرْزَخ، أو عَرَصَاتِ القِيَامَة، أو برَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى. فَلِهَذَا يَنْبَغِي للمُؤْمِنِ أنْ يَتَوَقَّى القَوْل السَّيِّئ في أعْيَانِ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ، ويُؤَدِّي الوَاجِب في دِينِ اللهِ، والقَوْل الصِّدْق، واتِّبَاع مَا أمَرَ اللهُ بِهِ، واجْتِنَاب مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ. وكَمَا أنَّ هذا الوَاجِبُ في المَسَائِل العَمَلِيَّةِ، فَكَذَلِكَ في هذه المَسَائِل الخَبَرِيَّةِ، لاسِيَّمَا فِيمَا يَغْمُضُ مَعْنَاهُ، ويَتَشَبَّهُ عَلَى عُمُومِ النَّاس الحَقّ فِيهِ بالبَاطِل؛ فهذا المَسْلَك يَجِب اتِّبَاعه؛ إذْ قَلَّ عَظِيمٌ في الأُمَّةِ إلاَّ ولَهُ زَلَّة...، فَلاَ بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ حَقّ الله بالوَاجِبِ في الإثْبَاتِ والنَّفْي، والأمْرِ والنَّهْي، وحَقِّ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، بِمَا لَهُم مِنْ إيِصَالِ حُقُوقهم إلَيْهم، مِنَ المَحَبَّةِ والمُوَالاَةِ، وتَوَابِع ذَلِكَ، واجْتِنَاب البَغْي والعُدْوَان عَلَيْهم] جَوَابُ الاعْتِرَاضَاتِ المِصْرِيَّةِ عَلَى الفِتْيَا الحَمْوِيَّة (162-163).
وقَالَ ابْنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهُ [ مَعْرِفَةُ فَضْلِ أئِمَّة الإسْلاَم، ومَقَادِيرِهِم وحُقُوقِِهم ومَرَاتِبِهِم، وأنَّ فَضْلَهُم وعِلْمَهُم ونُصْحَهُم للهِ ورَسُولِهِ لا يُوجِب قُبُول كُلِّ مَا قَالُوه، ومَا وَقَعَ في فَتَاوِيهِم مِنَ المَسَائِل الَّتِي خَفِيَ عَلَيْهم فِيهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول، فَقَالُوا بمَبْلَغِ عِلْمِهِم والحَقُّ في خِلاَفِهَا، لا يُوجِبُ اطِّرَاح أقْوَالهم جُمْلَةً، وتَنَقُّصهم والوَقِيعَة فيهم، فهذان طَرَفَانِ جَائِرَانِ عَنِ القَصْدِ، وقَصْدُ السَّبِيلِ بَيْنَهُمَا، فَلاَ نُؤَثِّم ولا نُعَصِّم، ...، ومَنْ لَهُ عِلْمٌ بالشَّرْعِ والوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أنَّ الرَّجُلَ الجَلِيلَ الَّذِي لَهُ في الإسْلاَمِ قَدَمٌ صَالِحٌ وآثَارٌ حَسَنَةٌ، وهُوَ مِنَ الإسْلاَمِ وأهْلِهِ بمَكَانٍ، قَدْ تَكُون مِنْهُ الهَفْوَة والزّلَّة هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ، بَلْ ومَأجُورٌ لاجْتِهَادِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أنْ يُتَّبَعَ فِيهَا، ولا يَجُوزُ أنْ تُهْدَرَ مَكَانَته وإمَامَته ومَنْزِلَته مِنْ قُلُوبِ المُسْلِمِينَ ]
إعْلاَمُ المُوَقِّعِينَ (3/283).

فَحَذَارِ حَذَارِ مِنَ الوُقُوعِ في أهْلِ العِلْمِ والإسْلاَمِ، والجَرْأةِ عَلَى ذَلِكَ المَقَام الخَطَر، وتَقَحُّمِ الإنْسَان فِيمَا لا يَعْنِيهِ، والسَّلاَمَةُ السَّلاَمَةُ لدِينِكَ وعِرْضِكَ.
ونَنْصَحُ بمُرَاجَعَةِ كِتَاب (حُرْمَةُ أهْلِ العِلْمِ) للشَّيْخِ مُحَمَّد إسْمَاعِيل المُقَدِّم،والانْتِفَاعِ بِهِ. انتهت الفتوى
ـــــــــــــــــ . . . ـــــــــــــــ. . . ــــــــــــــــــ


أعراض الدعاة والمصلحين

السُّؤَالُ: كَثُرَت في الأيَّامِ الأخِيرَةِ ظَاهِرَة الوُقُوع في أعْرَاضِ الدُّعَاة وتَقْسِيمهم ونِسْبَتهم إلى أحْزَابٍ، فَمَا رَأيُكَ بذَلِكَ؟
الجَوَابُ:
الحَمْدُ للهِ؛
إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَأمُرُ بالعَدْلِ والإحْسَانِ ويَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ والبَغْي والعُدْوَانِ، وقَدْ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِمَا بَعَثَ بِهِ الرُّسُل جَمِيعًا مِنَ الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ وإخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ وَحْدهُ. وأمَرَهُ بإقَامَةِ القِسْط ونَهَاهُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْر الله والتَّفَرُّقِ والتَّشَتُّتِ والاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ العِبَاد.

وقَدْ شَاعَ في هذا العَصْرِ أنَّ كَثِيرًا مِنَ المُنْتَسِبِينَ إلى العِلْمِ والدَّعْوَةِ إلى الخَيْرِ يَقَعُونَ في أعْرَاضِ كَثِيرٍ مِنْ إخْوَانِهِم الدُّعَاة المَشْهُورِينَ، ويَتَكَلَّمُونَ في أعْرَاضِ طَلَبَة العِلْم والدُّعَاة والمُحَاضِرِينَ. يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا في مَجَالِسِهِم. ورُبَّمَا سَجَّلُوه في أشْرِطَةٍ تُنْشَر عَلَى النَّاسِ، وقَدْ يَفْعَلُونَهُ عَلاَنِيَةً في مُحَاضَرَاتٍ عَامَّةٍ في المَسَاجِد، وهذا المَسْلَك مُخَالِفٌ لِمَا أمَرَ اللهُ بِهِ ورَسُولُهُ مِنْ جِهَاتٍ عَدِيدَةٍ، مِنْهَا:
أوَّلاً: أنَّهُ تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ النَّاس مِنَ المُسْلِمِينَ، بَلْ مِنْ خَاصَّةِ النَّاس مِنْ طَلَبَةِ العِلْم والدُّعَاة الَّذِينَ بَذَلُوا وِسْعَهُم في تَوْعِيَةِ النَّاس وإرْشَادِهِم وتَصْحِيحِ عَقَائِدهم ومَنَاهِجهم، واجْتَهَدُوا في تَنْظِيمِ الدُّرُوس والمُحَاضَرَات وتَألِيف الكُتُب النَّافِعَة.

ثَانِيًا: أنَّهُ تَفْرِيقٌ لوحْدَةِ المُسْلِمِينَ وتَمْزِيقٌ لصَفِّهِم، وهُمْ أحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إلى الوحْدَةِ والبُعْدِ عَنِ الشَّتَاتِ والفُرْقَةِ وكَثْرَةِ القِيل والقَال فِيمَا بَيْنَهُم، خَاصَّةً وأنَّ الدُّعَاةَ الَّذِينَ نِيلَ مِنْهُم هُمْ مِنْ أهْلِ السُّنَّة والجَمَاعَة المَعْرُوفِينَ بمُحَارَبَةِ البِدَع والخُرَافَات، والوُقُوفِ في وَجْهِ الدَّاعِيَة إلَيْهَا، وكَشْفِ خُطَطِهِم وألاَعِيبِهِم. ولا نَرَى مَصْلَحَةً في مِثْلِ هذا العَمَل إلاَّ للأعْدَاءِ المُتَرَبِّصِينَ مِنْ أهْلِ الكُفْر والنِّفَاق أو مِنْ أهْلِ البِدَع والضَّلاَل.

ثَالِثًا: أنَّ هذا العَمَل فِيهِ مُظَاهَرَة ومُعَاوَنَة للمُغْرِضِينَ مِنَ العَلَمَانِيِّينَ والمُسْتَغْرِبِينَ وغَيْرِهِم مِنَ المَلاَحِدَةِ الَّذِينَ اشْتُهِرَ عَنْهُم الوَقِيعَة في الدُّعَاةِ والكَذِب عَلَيْهم والتَّحْرِيض ضِدّهُم فِيمَا كَتَبُوه وسَجَّلُوه، ولَيْسَ مِنْ حَقِّ الأُخُوَّة الإسْلاَمِيَّة أنْ يُعِينَ هَؤُلاَء المُتَعَجِّلُونَ أعْدَاءهُم عَلَى إخْوَانِهِم مِنْ طَلَبَةِ العِلْم والدُّعَاة وغَيْرِهِم.

رَابِعًا: إنَّ في ذَلِكَ إفْسَادًا لقُلُوبِ العَامَّة والخَاصَّة، ونَشْرًا وتَرْوِيجًا للأكَاذِيب والإشَاعَاتِ البَاطِلَةِ، وسَبَبًا في كَثْرَةِ الغَيْبَة والنَّمِيمَة وفَتْح أبْوَاب الشَّرّ عَلَى مَصَارِيعِهَا لضِعَافِ النُّفُوس الَّذِينَ يَدْأبُونَ عَلَى بَثِّ الشُّبَه وإثَارَة الفِتَن ويَحْرِصُونَ عَلَى إيِذَاءِ المُؤْمِنِينَ بغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا.

خَامِسًا: أنَّ كَثِيرًا مِنَ الكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وإنَّمَا مِنَ التَّوَهُّمَاتِ الَّتِي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لأصْحَابِهَا وأغْرَاهُم بِهَا، وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا... ] (الحُجُرَاتُ: 12والمُؤْمِنُ يَنْبَغِي أنْ يَحْمِلَ كَلاَم أخِيهِ المُسْلِم عَلَى أحْسَنِ المَحَامِل، وقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ [ لا تَظُنّ بكَلِمَةٍ خَرَجَت مِنْ أخِيكَ سُوءً وأنْتَ تَجْتَهِد لَهَا في الخَيْرِ مَحْمَلاً ].

سَادِسًا: ومَا وُجِدَ مِنِ اجْتِهَادٍ لبَعْضِ العُلَمَاء وطَلَبَة العِلْم فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الاجْتِهَاد؛ فَإنَّ صَاحِبَهُ لا يُؤَاخَذُ بِهِ ولا يُثْرَبُ عَلَيْهِ إذا كَانَ أهْلاً للاجْتِهَادِ، فإذا خَالَفَهُ غَيْرُهُ في ذَلِكَ كَانَ الأجْدَرُ أنْ يُجَادِلَهُ بالَّتِي هي أحْسَن، حِرْصًا عَلَى الوُصُولِ إلى الحَقِّ مِنْ أقْرَبِ طَرِيقٍ ودَفْعًا لوَسَاوِس الشَّيْطَان وتَحْرِيشِهِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، فَإنْ لَمْ يَتَيَسَّر ذَلِكَ، ورَأى أحَدٌ أنَّهُ لا بُدَّ مِنْ بَيَانِ المُخَالَفَة، فَيَكُون ذَلِكَ بأحْسَنِ عِبَارَةٍ وألْطَفِ إشَارَةٍ، ودُونَ تَهَجُّمٍ أو تَجْرِيحٍ أو شَطَطٍ في القَوْلِ قَدْ يَدْعُو إلى رَدِّ الحَقّ أو الإعْرَاضِ عَنْهُ، ودُونَ تَعَرُّضٍ للأشْخَاصِ أو اتِّهَامٍ للنِّيَّاتِ أو زِيَادَةٍ في الكَلاَمِ لا مُسَوِّغ لَهَا. وقَدْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ في مِثْلِ هذه الأُمُور: مَا بَالُ أقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وكَذَا.

فَالَّذِي أنْصَحُ بِهِ هَؤُلاَءِ الإخْوَة الَّذِينَ وَقَعُوا في أعْرَاضِ الدُّعَاة ونَالُوا مِنْهُم أنْ يَتُوبُوا إلى اللهِ تَعَالَى مِمَّا كَتَبَتْهُ أيْدِيهُم، أو تَلَفَّظَت بِهِ ألْسِنَتُهُم مِمَّا كَانَ سَبَبًا في إفْسَادِ قُلُوب بَعْض الشَّبَاب وشَحْنِهِم بالأحْقَادِ والضَّغَائِن، وشَغْلِهِم عَنْ طَلَبِ العِلْم النَّافِع، وعَنِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ بالقِيلِ والقَالِ والكَلاَم عَنْ فُلاَنٍ وفُلاَنٍ، والبَحْثِ عَمَّا يَعْتَبِرُونَهُ أخْطَاء للآخَرِينَ وتَصَيُّدهَا، وتَكَلُّف ذَلِكَ.

كَمَا أنْصَحُهُم أنْ يُكَفِّرُوا عَمَّا فَعَلُوا بكِتَابَةٍ أو غَيْرِهَا مِمَّا يُبَرِّؤُونَ فِيهِ أنْفُسَهُم مِنْ مِثْلِ هذا الفِعْل ويُزِيلُونَ مَا عَلَقَ بأذْهَانِ مَنْ يَسْتَمِع إلَيْهم مِنْ قَوْلِهِم، وأنْ يُقْبِلُوا عَلَى الأعْمَالِ المُثْمِرَةِ الَّتِي تُقَرِّب إلى اللهِ وتَكُون نَافِعَة للعِبَادِ، وأنْ يَحْذَرُوا مِنَ التَّعَجُّلِ في إطْلاَقِ التَّكْفِير أو التَّفْسِيق أو التَّبْدِيع لغَيْرِهِم بغَيْرِ بَيِّنَةٍ ولا بُرْهَانٍ، وقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ [ مَنْ قَالَ لأخِيهِ: يَا كَافِر؛ فَقْد بَاءَ بِهَا أحَدهُمَا ] مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

ومِنَ المَشْرُوعِ لدُعَاةِ الحَقّ وطَلَبَةِ العِلْم إذا أُشْكِلَ عَلَيْهم أمْرٌ مِنْ كَلاَمِ أهْل العِلْم أو غَيْرِهِم أنْ يَرْجِعُوا فِيهِ إلى العُلَمَاءِ المُعْتَبَرِينَ ويَسْألُوهُم عَنْهُ ليُبَيِّنُوا لَهُم جَلِيَّة الأمْر ويُوقِفُوهُم عَلَى حَقِيقَتِهِ ويُزِيلُوا مَا في أنْفُسِهِم مِنَ التَّرَدُّدِ والشُّبْهَةِ عَمَلاً بقَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في سُورَةِ النِّسَاء [ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ] (النِّسَاءُ: 83).

واللهُ المَسْئُولُ أنْ يُصْلِحَ أحْوَال المُسْلِمِينَ جَمِيعًا ويَجْمَعُ قُلُوبَهُم وأعْمَالَهُم عَلَى التَّقْوَى، وأنْ يُوَفِّقَ جَمِيع عُلَمَاء المُسْلِمِين، وجَمِيع دُعَاة الحَقّ لكُلِّ مَا يُرْضِيه ويَنْفَع عِبَاده، ويَجْمَعَ كَلِمَتهم عَلَى الهُدَى ويُعِيذَهُم مِنْ أسْبَابِ الفُرْقَة والاخْتِلاَف، ويَنْصُرَ بهم الحَقّ ويَخْذلَ بهم البَاطِل، إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ والقَادِرُ عَلَيْهِ. وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وآلِهِ وصَحْبِهِ، ومَنِ اهْتَدَى بهُدَاه إلى يَوْمِ الدِّين.

مِنْ كِتَابِ: مَجْمُوع فَتَاوَى ومَقَالاَت مُتَنَوِّعَة لسَمَاحَةِ الشَّيْخ عَبْد العَزِيز بْن عَبْد الله بْن بَاز رَحِمَهُ اللهُ (م/7، ص/311). انْتَهَتِ الفَتْوَى
/
م/ن للفائدة