[c][shdw]
حتى المظاهرات يا سماحة المفتي ؟؟!!
د.عبدالستار الهيتي
الإفتاء: آخر ما تبقى من رموز الأمة التي تنظم علاقتها بدينها وترتب شؤون تنفيذها لأحكام ربها يدخل هذه الأيام مرحلة خطيرة من مراحل وجوده واستمراره، فهناك تداخلات متعددة ومنعطفات كثيرة تقف اليوم في وجه هذه المؤسسة عملت على إعاقتها عن أداء دورها الحقيقي وجعلتها بعيدة عن ملامسة مشاعر أبناء الأمة والتفكير بحاجاتهم ومصالحهم مما أدى إلى أن تكون مهمة الإفتاء داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية أكثر رتابة وأشد محافظة فهم بذلك ملكيون أكثر من الملك.
ولعل أبرز الأسباب التي أدت إلى تلكؤ مهمة الإفتاء في القيام بواجبها هي تلك الفجوة التي حصلت بين المفتين من جهة وعموم جماهير الأمة من جهة أخرى حتى أصبح الإفتاء لايمثل سوى دائرة من دوائر المؤسسة الحاكمة أو شعبة من شعب وزارات الأوقاف في بعض الأحيان وقد ذكر العلماء من الفقهاء والأصوليين أن الواجب فيمن يتصدى للفتوى في قضايا الأمة الخطيرة الكبيرة أن يكون على علم بأبعادها وما قد يترتب عليها من أضرار وأخطار، لأن العلم بذلك من شروط المفتي التي لا غنى عنها، فقد جاء في إعلام الموقعين لابن القيم: أنه لايتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علمًا، والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكمه في كتابه وعلى لسان رسوله [ في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الأخر.
إن الذي دفعني إلى هذه المقدمة هو متابعتي لما آل إليه حال مؤسـسة الإفتاء في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من حيث فقدان الثقة بها وعدم قناعة الأغلبية بما يصدر عنها، فما يصدر اليوم عن سماحة المفتين في أكثر الأمور خطورة وحساسية وأهمية لا يختلف كثيرا عما تردده وسائل الإعلام الرسمية، بل ربما تكون بعض الفتاوى أكثر التصاقا بالرؤى السياسية للمؤسسة الحاكمة ومعبرة عن توجهاتها أكثر حتى من المؤسسات الإعلامية الدعائية، ومن هنا أطلق بعض الفقهاء والمفكرين على المفتين من هذا النوع اسم وعاظ السلاطين أو علماء النخبة مما يصح أن يطلق عليه اليوم فقهاء تحت الطلب.
وفي هذا السياق يأتي التصريح الذي أدلى به مفتي عام المملكة العربية السعودية لقناة الجزيرة في أن المظاهرات من أخلاق غير المسلمين داعيا إلى طاعة ولي الأمر حيث قال معلقا على التظاهرات التي شهدتها العاصمة السعودية "الرياض" مؤخرا بدعوة من الحركة الإسلامية للإصلاح: إن هذه المظاهرات هي من أخلاق غير المسلمين وإن مجتمعنا الصالح لا يعرف هذه الأشياء، إنما هي فئة شاذة لا اعتبار لها، وإن المسلمين ليسوا فوضويين وإنما هم أهل أدب واحترام وسمع وطاعة لولي الأمر إلى أن قال: إن هذه الأشياء الغريبة على مجتمعنا والغريبة على بلدنا هي أشياء نستنكرها ونشجبها.
ما هكذا تورد الإبل يا سماحة المفتي الجليل ؟ ولا هكذا تدار الأزمات؟ ولا هكذا تتم معالجة القضايا المهمة والحساسة والخطيرة في حياة الأمم؟ فإن من المؤسف حقا أن عددا غير قليل من المفتين حرموا على الأمة كل مطلب يتعلق بأماني الشعوب أو يطالب بتحقيق آمالها وطموحاتها، فطاعة ولي الأمر عندهم واجب شرعي وحكم تكليفي لايجوز تجاوزه أو مخالفته حتى ولو أخطأ الولاة في حق شعوبهم، هكذا تريد مؤسسة الإفتاء المعاصرة أن تثقف الأمة ليبقى الجميع تحت طائلة الحكم الواحد والتفكير الواحد والاتجاه الواحد وليس هناك مجال للرأي الآخر أو الفكر المعارض.
اتقوا الله فينا أيها الفضلاء الأجلاء، اتقوا الله في أبناء هذه الأمة فقد حملكم الله مسؤولية عظيمة وتحملتم من خلال مناصبكم في الإفتاء عبأ ثقيلا فكونوا عند مستوى المسؤولية التي ستسألون عنها أمام الله غدا، من فتاواكم يتم تحديد طبيعة الحكم الشرعي، وعلى أساس تصريحاتكم يؤخذ رأي الشريعة، فكونوا على قدر المسؤولية، وإياكم والمجاملة والنفاق والمداهنة فإنما يهلك الأمم ظلم ظالم أو نفاق عالم أو مجاملة مستفيد.
حرمتم علينا كل شيء له علاقة بحقوقنا حتى كأننا لا يحق لنا أن ننبس ببنت شفة، التعبير عن الرأي صراحة في قاموسكم محظور بحجة أنه خروج على الإمام والخروج على الإمام خروج على الشريعة، والصدع بكلمة الحق ممنوع بحجة أنه وظيفة من وظائف الرسل والأنبياء فحسب ونسيتم أو تناسيتم أن رسول الله [ يقول «الساكت عن الحق شيطان أخرس» ونسيتم أو تناسيتم أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، ولم يبق أمامنا إلا التعبير عن الرأي من خلال التجمعات والمهرجانات وهو أضعف الإيمان ومع ذلك تقولون إنه ليس من أخلاق المسلمين ألم تقف امرأة من آخر الصف لترد على الخليفة ابن الخطاب وهو يتحدث عن تحديد المهور وتقول يعطينا الله وتمنعنا، القرآن يقول {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً}. وأنت تريد أن تخفض مهورنا وترد ما زاد إلى بيت المال، فيقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر، ألم يقف أمير المؤمنين في عصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي للظلم ليقول: أيها الناس القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، لقد كان المسؤول يقف ويقول: قوموني إذا رأيتم فيّ اعوجاجا، فيرد عليه أحدهم ويقول: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا فيقول لهم: الحمد لله الذي أوجد في أمة محمد [ من يقومني وكان يقول: «لا خير فيكم إذا لم تقولوها - كلمة الحق - ولا خير فينا إذا لم نسمعها»، فلماذا تمنعوا اليوم جماهير الأمة أن تقول كلمتها بحكم الشرع وأمره ؟ ولماذا تحجروا عليها مباحا وقد أباحه الله لها؟ ولماذا تضيقوا واسعا وقد أتاحت الشريعة للإنسان أن يقول حقا وينطق صدقا؟
لقد حباكم الله منزلة عظيمة، وأعطاكم مكانة كريمة ولا غرو في ذلك فالعلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا عنهم هذا الدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتمييع الظالمين المسرفين، ويمثلون القدوة الحسنة والأسوة المثلى للأمة في النهوض بأعباء الانتصار للحق وإيثاره على ما عند الخلق فقد قام العلماء الصادقون من سلف الأمة وخلفها خير قيام بهذه المهمات، وما وقوف سعيد بن جبير في وجه طغيان الحجاج صادعًا بالحق، وتحدي الإمام أحمد بن حنبل لجبروت الحكم والسلطان وصبره في فتنة الخلق بالقرآن، وتحمل ابن تيمية وحسن بلائه في السجن انتصارًا للسنة إلا نماذج من القيام بواجب النصرة للحق وأهله، قام بها هؤلاء الأئمة الأعلام انتصارا للحق و غيرة على الدين.
أين أنتم من هذه النصوص والمواقف؟ لقد حرمتم علينا كل شيء ولم يبق أمامنا إلا أن نتجمع لنعلن عن رأينا ونقول كلمتنا ولم يبق أمامنا سوى أن نتظاهر سلميا لنوصل صوت الشعب إلى ولاته وهو أضعف الإيمان، والآن تأتي فتاواكم المعززة برأي الشرع وحكم الدين لتقضي على بصيص الأمل المتبقي الذي نرجو أن ينهض بالأمة ويعيد لها جزءاً من حقوقها وحريتها ومطالبها، فهذه الأمة لم يبق لها إلا المظاهرات وقد حرمتموها عليها بحكم الشرع وتحت لواء أحكامه فماذا بقي لنا بعد اليوم؟ أتريدون أن تمنعونا من كل حق حتى المظاهرات يا سماحة المفتي الجليل؟
http://www.al-sharq.com/xml/topics/a...1&parent_id=50
[/shdw][/c]