2
ركزت عينيها على المصباح هو تقريبا انفس المصباح الذي اعتادت عليه. علبة صغبرة ممتلئة بالشحم الحيواني وتخرج من أعلاه فتلة من خيط الكتان. الإختلاف الوحيد هو الزجاجة البلورية فوق الشعلة، مما جعل الشعلة ثابتة والضوء أكثر بياضا. تحسست السرير الذي تنام عليه، هو تقريبا مألوف بالنسبة لها. سرير من خشب السنط لكن الملة منسوجة بحبل خشن بدلا من الجلد الذي اعتادت عليه. إرتفاعه أعلى وأرجله مرتفعة فوق مستوى الملة حوالي متر ونصف ومسقوف بالقماش، وتتدلى على جوانبه قطع من القماش الخفيف (ناموسية). تحسست عرض السرير فوجدته واسعا لم تصل يدها لحافته الأخرى. إنقلبت على جنبها لتحدد عرض السرير، فرأت على ضوء اللمية الخافت أن هناك من تشاركها النوم على نفس السرير. يبدو أنها يانسونة الإبنة الصغرى لمضيفها. يالله هي حتي الآن لا تعرف إسمه!!
أحست يانسونة بحركتها فجلست على السرير وأمسكت بيدها. وقالت:ـ يالله يبدو أنك متعبة فقد نمت طويلا. كان الوالد ينتظرك منذ الغروب، ونام بعد صلاة العشاء كعادته. لكنه أوصاني أن أوقظه فهو يريد التحدث إليك.. وخرجت يانسونة من الغرفة بينما قامت نصيرة وغسلت وجهها من إبريق النحاس الذي يوجد بجانب اللمبة وبجانبه صحن من النحاس أيضا (أدوات مألوفة مع تغيير طفيف في الشكل) ورجعت إليها يانسونة لتخبرها بأن الوالد ينتظرها، وقادتها لخارج الفرندات إلى غرفة منفصلة عن بقية المنزل. دخلت نصيرة الغرفة، بينما انسحبت يانسونة..
:: تفضلي يابنيتي لاتخشي شيئا، أنت في دارك وأنا في مقام والدك عثمان..
(تجمدت أطراف نصيرة حين سمعت إسم والدها. وبعد برهة تكلمت)
// وهل تعرف والدي؟؟
ورد عليها بعد تفكير إستمر لدقيقة..
:: وكيف لا أعرفه أنا إسمى عثمان وقد سموني على جدي الرابع الذي هو والدك..
// شكرا على هذا المزاح اللطيف ياعمي لعلك تريد أن تنسيني الكارثة التي حدثت لأهلي ولا ادري حتى الآن كبف حدثت وما هي تفاصيلها ولكنني يا عمي والحمد لله مؤمنة وصابرة وقادرة بإذن الله على تحمل المصيبة. فأرجوك يا عمى ... (وأنتابتها نوبة من البكاء) فقام الرجل وأمسك بيدها وأجلسها بجانبه. وبعد أن أفاقت نصيرة من البكاء ربت الشيخ عثمان على كتفها بحنان أبوي ودار بينهما الحوار من جديد..
وكان حورا غريبا..
بدأه الشيخ عثمان:ـ يا بنيّتي أنت مؤمنة بقدرة الخالق فعليك أن تستوعبي الموقف بشجاعة أكبر. وكل منا في هذه الفانية له دور يؤديه ويذهب، وعلينا أن نؤدي الدور بامانة. وأنت يا ابنتي قد أديت دورك في حياتك القصيرة السابقة على أحسن وجه. فقد كنت كريمة عطوفة بالفقراء والمساكين. وتذكرين جيدا عام المجاعة 1506 ميلادي. تذكرين حين ذهبت مع الأسرة إلى مغارة الجبل حيث كان والدك وجدنا غفر الله له يخبئ كنوزه من الذهب والمجوهرات لتأخذوا منها مئونة العام في غرة يناير 1506.. واليوم باابنتي يوافق الأول من يناير 1806 وقد مرت ثلاثمئة عام بالتمام والكمال. تذكرين أنك خرجت من المغارة مسرعة بعد أن أخذت بعض المجوهرات لتوزيعها على بعض المساكين الذين كانوا ينتظرونك خارج المغارة. وبعد خروجك مباشرة إنهارت المغارة على رؤوس أسرتك أبوك وأمك وأخوتك وبقي أخوك يس حيث كان يحرس المنزل وهو جدنا الذي حفظ نسل الأسرة. أما أنت يابنيتي فقد أغمي عليك من هول ماحدث وأراد الله أن تتدحرج بعض الحجارة الضخمة حولك وتصنع لك حجرة ظللت نائمة فيها كل هذا الزمان ولما جاء الوقت المقدر إنزاحت إحدى الصخور وصحوت أنت من غفوتك الطويلة وخرجت. وكنت أنا أنتظر هذه اللحطة منذ ربع قرن بالتمام لاستقبالك فقد أكرمني الله بك إبنة وجدة كريمة..
// ولكن ياعمي من أخبرك بكل هذه التفاصيل؟؟
:: هو طيف أخوك وجدنا يس فقد كان من الصالحين وقد جاءني للمرة الأولى قبل خمسة وعشرين عاما عندما احتسبت إبنتي الكبرى نصيرة التي أسميتها تيمنا بك. وقد كانت جميلة تشبهك تماما.. وحزنت عليها أيما حزن.. كاد الحزن أن يودي بحياتي لولا مؤاساة طيف أخوك يس. وقد أخبرني بأن نصيرة الأصل في ثبات أهل الكهف وحدد لي تاريخ ظهورك اليوم ولم يظهر منذ ذلك الزمان إلا فجر اليوم ليذكرني بموعد ظهورك. رغم أنني كنت أعد الساعات بل الدقائق والثواني في انتظارك.. ظلت نصيرة تصغي لقصتها في صمت قطعته يانسونة التي دخلت عليهم مستأذنة تحمل العشاء فطيرة القمح بالحليب (ماأحيلاها) وجلست يانسونة تتعشى معهما في صمت لدقائق قطعه الشيخ عثمان قائلا:ـ
:: يانسونة اببنتي الصغرى ولكنها الكبرى بإيمانها ورجاحة عقلها وهي أقرب الناس إليّ حتى من أمها وهي تتولى تدبير المنزل وترتيب شئوني الخاصّة. وكل أسراري معها. وهي تعرف عنك كلما أعرفه أنا وستكون عونا لنا إن شاء الله في الأيام القادمة..
وبعد الوجبة الدسمة قامت يانسونة بإحضار الأبريق والطست وغسلت يدي والدها والضيفة مستعينة بكتلة من الكركتّي (طين من شاطئ النيل) ثم حملت أوعية العشاء، وبعد برهة أحضرت براد الشاي وأكواب البلور وجلست معهم لتصب الشاي السادة تفوح منه رائحة النعناع المنعشة..
وتحدثت اليانسونة بصوتها الأنوثي البديع:ـ
+ أقترح يا أبتي أن أكون وصيفة ملازمة لأختي وجدتي نصيرة وسوف أكون بعون الله عند حسن الظن..
:: قد طلبت يا ابنتي ما كنت أريد تكليفك به فسوف تبقى نصيرة معك بالمنزل وتشاركك التدبير بينما نكون نحن جمبعا في الحقل ولست بحاجة لأوصيك بها خيرا. عليك استخدام كل ماحباك الله به من حكمة وعقل لحمايتها من فضول إخواتك وأمك على أن يبقى السر بيننا الثلاث حتى يفعل الله مايريد..
وبعدها قامت يانسونة وقبلت رأس أبيها وقبلت الضيفة وأخذتها لتنام في حضنها وماكانت تستطيع النوم لولا دفئ اليانسونة وعطرها اليانسوني الطبيعي الذي أراح أعصاب أختها الجدة من هول ما سمعت..
.................................................. ......................
كان الموسم الشتوي حيث العناية الفائقة بمحصول القمح الذي يحتاج للدقة في تنظيم الري والتسميد والنظافة وأي تقصير قد يؤدي لفقدان المحصول كليا.. ومن أشهر أمراض القمح على الإطلاق مرض دويك الذي يبدأ باصفرار في أطراف النبات ويُتلف المحصول تماما..
(ومن الطرائف أن أجدادنا حمدتو وسمح الناس أولاد الحسين رحمهما الله كانا بزرعان قمحا ظهرت في أطرافه إصابة المرض القاتل دويك. وبينما هما يتشاوران في الأمر الجلل، ظهر المرحوم (ودالضعاف) على حماره من البعد وكان شاعرا هجاءا في مثل هذه الحالات فرآه سمح الناس ونادى حمدتو ليختبئا منه ولسوء الحظ رآهما فقال:ـ
دويك في ساقة الحسين أول دخلتو
وســمح الناس يكورك لي حمـــدتو
.الجميع في الحقل من الدغيش وحتى المغيرب ونصيرة مع اليانسونة تديران شئؤن المنزل بتدبير واقتصاد دقيقين مما أدهش الشيخ الوالد إذانخفض المصروف الى النصف مع عدم التاثير على الجودة والكمية. ومن كثرة ثنائه على نصيرة تولدت الغيرة في قلب الأم وبناتها، ولو لا حنكة اليانسونة وذكائها لانقلب البيت رأساً على عقب..
ومرت أيام االرعاية للقمح على أحسن ممايكون، وتم حشّ القمح ووضعه في التقاة.. وكان يوم الدرس (النوريق) وكانت العادة أن يتم صنع إفطار النوريق من القمح نفسه.. ولأول مرة خرجت نصيرة واليانسونة بعدأن أعددن الإدام (الملاح) في وعاء فخاري كبير (الكنتوش) خرجتا إلى الحقل القريب من الجبل. وماأن رأت نصيرة الجبل عاودها الحنين لأهلها وزمانها بعد أن كادت تنسى. وانتابها شعور غريب حزن مع اختلاط في الذاكرة وترتيب الأحداث.
لكنها حاولت أن تشغل نفسها بإعداد القراصة فحملت كيسا من القماش لجلب القمح من التقاة مباشرة بينما الحمير تدور في النوريق واليانسونة جالسة أما محجر الطحين تنتظرها وبقية الأسرة جالسين يتابعون دوران الحمير ويأتي الدور لكل منهم للدوران وراء الحمير.. وكانت نصيرة تلتقط حبات القمح المتناثرة خارج التقاة حتى متلأ كيسها.. ولاحظت أن البنات يتابعنها ويتهامزن ويضحكن وطرق أذنها قول إحداهن :ـ
(الجووووع يايمة البت الجعاني دي جايي من وين؟؟ كُركُر من الغلي!!)
إلتفتت إليهن وقالت في حنق غير معهود بها، قالت:ـ
(كان لقينا نبدّله الكيل بالكيل
م اكان راحوا أهلي القبيل)
وبدأت تبكي بحرقة شديدة وهي تردد بيت الشعر.. وفجأة رمت البنات بكيس القمح وانطلقت مهرولة نحو الجبل يسرعة تفوق سرعةالغزال المطارد وهي تبكي وتردد نفس البيت.
كان لقينا نبدّله الكيل بالكيل + ماكان راحوا أهـلي القبيل
إنطلق الجميع وراءها لكنها كانت اسرع بكثير. حتى الشيخ الوالد رغم الكبر هرول مع الجمع ولكن هيهات هيهات.. فقد دخلت الجدة الإبنة المغارة ولم يدركها أحد. ورجع الجميع بعد أن إنقطعت أنفاسهم داخل المغاره ليجدوا الوالد الشيخ ممددا على الأرض وقد فارق الحياة ..
وكانت النهاية أسطورة حكتها اليانسونة في مأتم والدها للرجال قبل النساء.. وتداولتها الحبوبات كل واحدة تحكيها حسب مقدرتها على الحبكة..