2
وقطعت تفكيري لكزة خفيفة عبر النافذة .
يالله!! رشقتني عيونها بسهام اخترقت شغاف قلبي..
كادت تقتلني..
لم أر في حياتي عينين بهذا الجمال والبريق..
لم أتمعّن في شيئ سوى العينين. وكيف أعبر هذه الأمواج الزرفاء..
(إني أغرق.. إني أغرق.. إني أغرق.. لم تكن عندي تجربة في فنّ العوم، ولا عندي زورق.)
كانت تريدني أن أحجز لها الكرسي الخالي بجانبي بعد نزول من كان يشغله، (ولا أذكر إن كان رجلا أم امرأة) ناولتني شنطتها المدرسية وكيس به موز. وتحركت فورا للمقعد الخالي بجانبي ووضعت حاجياتها في مكاني..
في تلك اللحظة كان أحد الطلاب يريد الجلوس بجانبي لكنني سبقته وحجزت لها المقعد. واحتجّ الولد الملعون بلؤم شديد..
فقلت له ببرود :ـ إن أردت أن أحجز لك مقعدا في المرّة القادمة، فما عليك إلا أن ترتدي خمارا. ضحك الركاب مما زاد غيظ الولد، وكاد أن يشتبك معي بالأيدي، لولا أن أن أمسك به رجل كبير في السن وزجره. وقبل أن تركب صاحبة العيون كنت جائعا، ففتحت كيس الموز وأكلت منه واحدة. ولمّا ركبت بجانبي أخبرتها بأنني أكلت الموزة لأنني جائع ولم أتغدّى. فتحت الكيس وأعطتني أخرى فالتهمتها بسرعة البرق. أدخلت يدها في الكيس مرة أخرى لتناولني أخرى، وسمعتها تقول بصوت منخفض، (وا ااا اااا شريري) فأيقنت بأنها من بني (شايق) أمسكت بيدها لامنعها من قطع الموزة الثالثة وقلت لها:ـ (خلاص بعد ده لو نمت ما تصحيني للغدي) تعمّدت ان أتحدّث باللكنة الشايقية. فانكفأت الفتاة على ظهر المقعد الأمامي في ضحك متواصل إرتجّت معه كل اللآلئ البضّة، في معزوفة تقول :ـ
أغلى من لؤلؤة بضّة..
صيدت من شط البحرين..
ثمّ بعد أن أفاقت من الضحك سألتني:ـ (ما إسمك؟؟ من أي منطقة أهلك، أين تسكن، مكان عملك ومهنتك؟؟) عرفت سيرتي الذاتية كاملة غير منقوصة. وبعدها جاء دوري وعرفت أنها أصلا من قرية في الشمال مجاورة لقريتنا، لكنها ولدت ونشأت في العاصمة، ولم تر قريتها أبدا. والغريب في الأمر أنّها تسكن مع أهلها في نفس شارع بيتنا العزّابي.. نزلنا في نفس المحطة، ولم تتردد رغم ترددي في السير بجانبي والتحدث معي حتى قطعنا الشارع الطويل ووصلنا لمنزلهم. وعند باب منزلهم قالت لي باللفظ الواحد (علي الطلاق ، حرّم ، ما بتمشي إلّا تتغدى معانا)
قلت لها :ـ يابنت العم ماذا سيقول عني أهلك؟؟؟ أرجوك أن تتركيني الآن ولسوف أعود في المساء وأزوركم واتعرّف على الوالد. ولكن هيهات هيهات، كانت تمسك بيدي وهي ما تزال تحلف بالطلاق والحرام بصوت عال وتفتح الباب باليد الأخرى، حتى شعر والدها بالحركة وخرج إلينا. إندهشت غاية الدهشة حين خرج إلينا والدها. هو رجل في العقد السادس من العمر، أسمر اللون، متوسط الطول، نحيل الجسم، تتوسط خديه شلوخ أفقية شايقية.. هو نفسه العم محمد خير الذي أعرفه تماما.. يعمل رئيسا لسائقي السيارات في نفس وزارتنا. رجل أكنّ له كل الإحترام والتقدير. متدينا تماما لا تفارقه المسبحة. يصلي بنا إماما في مسجد الوزارة. فقد كنت رغم اعتناقي حزب الوسط، محافظا على صلواتي، كان الكل يحترمونه من الوزير الذي اختاره لقيادة سيارته بالرغم من أنه رئيس السائقين، وحتى أصغر سعاة الوزارة. الكل يناديه بالعم محمد خير حتى الذين في عمره. ابتسم الرجل ابتسامة عريضة حين رآني وعانقني رغم حيائي منه و أنا قادم مع ابنته. وحين لاحظ انكماشي قال لي:ـ لقطتك من وين الليلي الخرابة دي؟؟ولا يهمك يا ابو الخلد. أنا ماجدة بنتي هذي تساوي عشرة رجال. لست خائفاً عليها لأنني ربيتها على الثقة والصراحة (آآآآه نسيت أن أقول لكم أنّ إسمها ماجدة محمد خير) لكن هي لاتتعامل بهذه الطريقة إلا مع الأقارب والمعارف المقرّبين!! قل لي كيف عرفتها وأين التقيت بها ولا تخفي عنيّ شيئا فأنا أعرف أخلاقك تماما كما أعرف بنتي.. فحكيت له قصة البص والموز بكل تفاصيلها. فضحك كثيرا..
قلت له:ـ لكن لماذا لا تسالها هي وتسألني أنا؟؟
قال لي:ـ أنا لا أشك في حسن تصرفها ولو سألتها ربما تظن أنّ ثقتي بها قد اهتزّت. بصراحة ياولدي أنا أحيانا أخاف منها أكثر من خوفي عليها، ولا أحتمل غضبها أبدا أبدا. وجاءت اللؤلؤة البضّة تحمل الغداء ولم تخلع زيّها المدرسي بعد. ملاح الورق المفروك بالكسرة البيضاء، وفوق الكسرة لحيمات محمّرات، وبجانبه صحن السلطة الطازج (طماطم ، بصل أخضر ، جرجبر ، عجور). تذكّرت أمي والله في تلك اللحظة. فملاح بهذا الطعم البلدي ولحم ضأني شهي موضوع فوق الكسرة والسلطة الخضراء. منظر لم أشهده وطعم لم أذقه منذ أن فارقت أمي. ثمّ كانت البطيخة الحلوة المترمّلة والموز (وتمت الناقصة) وعمّنا محمّد خير يمسك بي كلّما أردت مغادرة المائدة مع الإصرار والحلف، حتى ظننت أنني لن أستطيع القيام وقد ملأت الثلث الثالث من وعائي. ولم أبارح حتى قضيت تماما على الأخضر، حيث لا يوجد على السفرة يابس. وبعد أن غسلت يديّ من الماسورة خارج الغرفة، حيث يتكوّن المنزل من ثلاث غرف لارابع لها من اللبن (الجالوص) ولا توجد به فرندات، وحمام بجانبه الماسورة تصبّ في بالوعة الحمّام، ومرحاض في الركن القصي منقسم لجزءين. بيت في منتهى البساطة، لكنه غنيّ بكرم أصحابه وتحضّرهم ونظافتهم وظرفهم. الأسرة الصغيرة تتكون من عمنا الشيخ محمّد خبر وحرمه المصون عائشة والإبنة الكبرى في ترتيبها ومقامها ماجدة تليها مواهب ثمّ الولدين المهذّبين أحمد وشهاب. الكل يعيش في إلفة ووئام في كنف الوالد المتدّيّن المتحضّر في تعامله والأم الحنون البسيطة التي جاءت وجلست معنا بعد الغداء لتتعرّف عليّ، حين علمت أنني من البلد (كما يقول أهلنا).. الشيئ الغريب أنها جاءت إلى الخرطوم و كان عمرها أربعة عشر عاما وهي عروسة، ولم ترجع للبلد سوى مرّتين كانت أخراهما قبل خمسة عشر عاما، لكنها تتحدث بلهجة شايقية أصيلة لايتحدثها القابعون هناك طيلة حياتهم. ثم جاءت اللؤلؤة البضّة تحمل الشاي تفوح منه رائحة النعناع أو ربما القرفة لا أدري أيهما، فقد اختلط حابل حواسّي بنابلها. جلست بجانب والدتها غاضة طرفها في حياء جمّ، وكأنها هي ماهي تلك التي جرّتني من يدي من الشارع وهي تحلف بالطلاق والحرام. كانت ترمقني كما أفعل خلسة (بطرف العين) ولاحظنا الوالدان، وحين شعرت خرجت مسرعة وكاد قلبي ينخلع وراءها. شربنا الشاي ولم يبق لي سوى أن أغادر مستودعا قلبي الله. خرج معي العم محمّد خير مودّعا حتى الشارع، وقبل مغادرتي وصفت له بيت العزّابة وكان على مرمى سهم، على ناصية الشارع الثاني من بيتهم. ودعوته لزيارتي وشرب القهوة معي. قال لي وهو بيتسم:ـ ومن سيصنع لنا القهوة؟؟؟ قلت له :ـ أنا أجيد هذا العمل تماما. أو تدرون ماذا كان ردّه؟؟ يا لحنكة وذكاء هذا الرجل!! فقد إختصر لي مشوارا طويلا..
قال لي :ـ لا لا لا أنا لا أشرب قهوة العُزّاب.. لو ماجبت المره وانت راقد علي قفاك تنهر، يا ولية جيبي الجبنة وشمينا ريحة القلية يبقى مافيش فايدة..
تشجّعت وقلت له :ـ طيب خلاص يا عم محمّد يدي على كتفك وأنا أتزوّج فورا..
قال:ـ أنا تحت أمرك ياولدي ولن أتوانى في تقديم عمل الخير ماذا تريد مني يا ولدي؟؟
قلت :ـ أريد ابنتك المصون ماجدة زوجة لي، على سنة الله ورسوله. لم يتفاجأ الرجل فقد كان يعرف أننى قد تركت قلبي في بيته، و أنّ ابنته سوف ترضى بي زوجا. لكنه تظاهر بأنّه تفاجأ..
قال لي:ـ يعني إنت قابلتها من قبل ونجّضتو موضوعكم وجايين تستهبلوا علينا؟؟
قلت:ـ لا و الله يا عمّي فأنا لم أقابلها قط من قبل سوى اليوم وفي البص وكما حكيت لك تماما، بلا زيادة ولا نقصان..
قال:ـ ولكن كيف تحدد مصيرك هكذا دون أن تعرف العروسة وأخلاقها وأهلها، ودون أن تستشير أهلك فربما يكونوا قد حجزوا لك عروسة من أهلك..
قلت:ـ كلّ هذه الأمور ستتم على أحسن مما يكون فأنا أعرف الأصول جيدا يا عمّي.. وأما عن معرفتي للعروسة..
فأولا:ـ يكفيني أن تكون هي ابنتك، وتا الله لو كنت أدري أنّ لك ابنة لتقدمت لخطبتها حتى ولو لم أرها قط. والمثل يقول الما شاف فاطني يشوف مُحمد في السوق..
ثانيا:ـ أحيانا تلتقي بأحد الناس للحظات فتعرف عنه كل شيئ وأحيانا تعاشر أحد الناس سنينا طويلة ثمّ يتضح أنّك لاتعرف عنه شبئا. وأنا قد خبرت عن ماجدة كلّ شيئ من أول لحظة رأيتها فيها..
قال:ـ وهو يجرّني نحو الداخل مرة أخرى.. وماذا عرفت عنها؟؟؟ وجلسنا على كراسي البلاستيك في ظل العصر داخل ساحة المنزل..
قلت:ـ أولا:ـ وهي تناولني الموزة وتقول وااااشريري عرفت شيئين. أولهما أنّ بقلبها حنية تسع الدنيا بحالها. وثانيهما أنّها متربّية على الأصول القديمة. فكلمة وا شريري لها وقع خاص في نفسي.
ثانبا:ــ سيرها بجانبي من الشارع الرئيسي وحتى باب بيتها ووسط حيّها ومعارفها دون تردد أو خوف من القيل والقال. فهذا يدل على ثقتها الكبيرة بنفسها، ومعرفة أهل الحي بحسن خلقها. وأنّها اجتماعية وكل أهل الحي يعرفونها. وقد مررنا بعدد من أهل الحي رجالا ونساءا، شيبا وشبابا من الجنسين، وما من أحد منهم إلا وقد سلّم عليها باسمها، وباحترام شديد. وقد أحسست أن الكلّ يرتاحون لها، ويقابلونها بصدور رحبة.
ثالثا:ـ إصرارها الشديد على دخولي منزلكم والغداء معكم دون إخطاركم، يدلّ أيضا على ثقتكم بها وثقتها بنفسها وقوّة شخصيتها. وفوق ذلك كله كرمها وجودها من الموجود. فهذا يعني أنها تصلح أن تكون ربة بيت يقصده الأهل والضيوف. و هكذا أرجو أن يكون بيتي..
رابعا:ـ........
قال:ـ يكفيك يكفيك، لا رابعا لا خامسا، أنت فعلا تعرفها تماما وتستحقها لو وافقت. أمّا عنّي أنا فبعد الذي سمعته منك فو الله لو خيّروني أن أخطب لبنتي لما ترددت لحظة في اختيارك.. فأنت والله رجلٌ تُخطب..
وناداها:ـ ياماجدة ياينتي تعالي.. وكرر النداء عدة مرات، ولاحياة لمن تنادي. وبعد قليل جاءت أمّها وقالت وهي تتلعثم:ـ ياراجل تكورك كدي مالك!! قالت لك خلاس موافقي لكن مابتجي، خجلاني..
قال:ـ يا امرأة موافقة علي ماذا وتخجل ممّاذا ليس معنا أحد، هو نفسه الرجل الذي جاءت تجرّه من الشارع..
قالت :ـ هي كدي خلّ الكلام الني ده..نحن سمعنا كلّ مادار بينكما من حديث..
شدّ الرجل على يدي وهو بقول:ـ مبروووك يا عريس أنت أهلا لها وهي أهلا لك..
فقمت على الفور و قبّلت رأسه أنا أتمتم:ـ يستاهلك الخير يا صهري، أقصد يا عمّي.. وخرجت وأنا أكاد أطير نحو بيت العزّابة لأحكي لإخوتي ما حدث لي خلال ساعتين. شيئ يفوق الخيال. وقررت أن أذهب للوزارة في اليوم التالي وأطلب إجازة محلية أسافر لبلدنا لإخبار الوالد والوالدة، وإحضارهم ليخطبوها لي..