3
وكان السفر باللوري النيسان صباحا باكرا يوم السبت. ورغم صعوبة السفر في ذلك الزمان، إلا أنّ هذه السفرة كانت مختلفة جدا. فلم أشعر بذلك التعب الذي كنت أهابه كثيرا. سافرت معتليا سطح النيسان حيث لم أتمكن من الحجز ولا مجال للتأخير ليوم واحد، حيث كانت إجازتي (محليّة) لمدة أسبوع واحد لاغير.
كان سائق البص جابر، ذلك الرجل الطيّب القدير الصبور عليه رحمة الله، قد وقّانا (بعد الله) شر الوحل والتوحّل، لم يستعمل المساعدون الصاجات البتة في ذلك اليوم السعيد. ووصلنا البلد عصر اليوم نفسه في تمام الساعة الثالثة بعد الظهر. دخلت بيتنا ووجدت الوالد وإخوتي الصغار جالسين تحت شجرة النيم الكبيرة الظليلة وسط ساحة الدار في انتظار صينية الغداء. سلّمت عليهم وكان شوقي لإخوتي الصغار شديدا، حيث لم أسعد بلقائهم منذ خمس سنوات. حيث كنت أستقلّ عطلتي السنوية للإمتحانات. وبما أنّه قد تمّ تحويلي للوظيفة الجامعية بالدرجة (Q)، فقد كان عليّ أن أواصل عاما ونصف العام حتى أستحق الإجازة السنوية.
ولا شك أّن ّالوالد كان مستغربا حضوري، لكنه لم يسألني، بل قال لي بعد أن سلّمت عليهم ولحقت بالوالدة والأخوات في المطبخ وسلّمت عليهنّ. بعدها أمرني الوالد بدخول الحمام سريعا لأنهم سوف ينتظرونني بالغداء. دخلت الحمام وخرجت بسرعة حيث جلسنا رجالا وصبية للغداء، حيث هناك كما جرت العادة لا مكان للنساء إلا بعد انتهاء الرجال ثمّ يأخذن الصينية لإصلاحها قليلا و يتناولن وجبتهنّ داخل المطبخ ببطء شديد بعد أن يقدمن الشاي للرجال. وبعد أن تغدينا وغادر الصبية شربنا الشاي أنا والوالد في نفس المكان. حيث الشاي كان محرّما على الصغار لأنّه يضرّ بالصحة. وأتحفتني أختي الصغيرة بالمخدّة، بتوجيه من الوالدة طبعا. ورقدت بجانب الوالد تحت الشجرة ودار بيننا الحوار التالي:ـ
الوالد:ـ كان مجيئك مفاجئا، فقد أخبرتني في خطابك الأخير أنّ إجازتك في سبتمبر القادم أي تبقى لها ستة أشهر خير إن شاء الله!!
قلت:ـ كل خير يا والدي، و قبل الرد عليه فتحت الشنطة الصغيرة وأخرجت منها دفتر التوفير (كنت أعرف أفضل السبل لمخاطبته وإقناعه) حيث كان بدفتر البنك مبلغ لاباس به (حوالي ستمئة جنيه) ناولته الدفتر ولمّا فتحه ورأى المبلغ ضحك وقال ما شاء الله، ما دمت تستطيع توفير كلّ هذا المبلغ لماذا لا تتزوج؟؟ لازم ترجع من هنا وزوجتك في يدك. وهنا ظهرت الوالدة في باب الفرندة وقد سمعت الحوار الدائر بيننا طبعا.. (يا للنساء لا تفوتهنّ واردة ولا شاردة)
وقالت معترضة:ـ ياراجل الولد مازال صغيرا على الزواج دعه يكوّن نفسه أولا ولن بفوته قطار الزواج.
قال لها:ـ تعالي وانظري يا امرأة، إبنك ما شاء الله تبارك الله صار يمتلك دفترا بالبنك وبه ستمئة جنيه، ولن أدعه يعود من هنا إلا وزوجته في يده. وما عليه إلا أن يختار العروسة التي تناسبه ويرغب في الزواج منها وسوف أقوم أنا بإتمام عقد قرانه فورا.
الوالدة:ـ بنت خالته موجودة (يعلم الله أنها بدر التمام ويمشي على رجلين) وما عليه إلا أن ينتظر قليلا حتى تمتحن الشهادة الثانوية ويتزوجها وتذهب معه للخرطوم. أنا خطبتها له من أمها قبل سنتين والعروسة موافقة..
كانت هذه آخر كلمات أسمعها وداهمني النوم. ومن فرط تعبي صحوت من النوم بعد آذان العشاء بقليل وتوجهت مباشرة نحو التُكُل (المطبخ) حيث كانت الوالدة تعوس الفطير للعشاء باللبن الرائب والفطير (وجبتي المفضّلة منذ نعومة أظافري) وكان الوالد قد خرج للمسجد والأنس على الرمال تحت ضوء القمر حتى الساعة العاشرة ليلا كعادته.
جلست بجانب الوالدة أقرمش الفطيرة الكنكروشة (والكنكروشة لمن لا يعرفها فطيرة تتركها أمهاتنا على الصاج لفترة أطول حتي تجفّ و يتركّز ملحها فتصبح أشبه بشرائح القمح والذرة و البطاطس التي يحبها أطفال هذا الزمان ويسمونها (Chips). جلست أقرمش كما كنت زمان الصغر، وفي جلستي هذه حكيت لأمي كلّ قصتي مع لؤلؤتي بالتفصيل. وأخبرتها أنني أريدهم للسفر معي لطلب يد العروسة. وكان عكس ما توقعت فرحت أمي لدرجة إطلاق زغرودة طويلة، ولكن بصوت خفيض. ثم قالت أنا كنت أريد لك بنت خالتك لكن وصفك لهذه البنية جعلني أحبّها بشدّة وكأنني أعرفها منذ ميلادها، وباركتها لي وهي تقبّل جبيني وتضمني إلى صدرها رغم العجين.
قلت:ـ لكن ماذا ستقولين لخالتي بعد أن ربطت لسانك معها وخطبت لي ابنتها كوثر بلا مشورتي؟؟
قالت:ـ وهل تظنني هبلة أم أنّك تظنّني هبلة؟؟
قلت:ـ حاشاك يا والدة لكن هذا كلامك..
قال :ـ كلامي ما هو بصحيح ولكنني خائفة من أن يكون عمّك قد وسوس لوالدك وخطب لك واحدة من بناته القاهرات الجاسرات.. (بري بري) أحمد الله أنّك قد وجدت عروستك بعيدا عنهنّ..
بالمناسبة عروستك هذه أنا أعرف جدتها وخالاتها لكن أمّها ومنذ يوم عرسها لم أرها مرّة أخرى. وهم أناس (ماشاء الله تبارك الخلّاق) يتمتعون بحسن الخَلق والخُلُق.
قلت:ـ أفهم من هذا أنّك موافقة وسوف تقنعين الوالد وتذهبا معي لخطبتها..
قالت:ـ أيّ خطبة تعني يا ولدي قل نزوّجها لك، نعقد لك عليها ونرجع في نفس يومنا.
قلت:ـ ياوالدة الزواج في الخرطوم يختلف عن هنا ويحتاج مالا كثيرا..
قالت:ـ أيّ مال يا ولدي ما عليك إلا أن تسلمني أربعمائة جنيه من دفترك هذا وسآتيك بها تتبعها أمّها. (أقص شعيراتي ديل إن لم أفعلها)
قلت:ـ لكن يا والدة البنت ما تزال تلميذة في المدرسة وتبقى لها شهران فقط وتمتحن الشهادة الثانوية وأنا لا أريد حرمانها من دراستها. فالشهادة ربما تنفعها.. أهلها مساكين وليس لديهم ولد كبير، ويمكنها أن تعمل معلّمة مثلا وتساعد أهلها.
قالت:ـ وماذا رمى بك على هؤلاء المساكين؟؟ ألم تجد أخرى ظروفها أفضل؟؟
قلت:ـ بل هم أغنياء بقناعتهم وحسن خُلُقهم وقلبي وعقلي هما الذان ساقاني إليها. وما عليك إلاّ أن تخبري الوالد وتقنعيه وتأخذي منه الموافقة، وسوف أقوم أنا بإتمام الباقي..
قالت:ـ هيييي دااابك خربتو .. براااك كلّم أبوك..
بينما أنا مستمتع بالجلوس وقرمشة الكنكروشة بجانب أمي و أجلس بجوارها على بنبر (مقعد صغير منسوج بالحبل) وهي تجلس على الككر (مقعد مكون من ثلاث خشبات) تقود القرقريبة (شريحة رقيقة لتحريك العجين ونشره على الصاج) يمينا ويسارا في مسار هلالي، و أنا قد رجعت بي كبسولة الزمن نيف وعشرين عاما. إذا بصوت والدي الجهور ينادي:ـ أين خالد يابنت؟؟ يبدو أن أختي الصغيرة قد أخبرته بمكاني. فصاح نفس الصيحة التي كانت:ـ ياولد مالك منحشر في المطبخ مع الحريم؟؟ تعال مارق سلّم على عمك.. فخرجت وأنا أسمع أمي تقول بصوت منخفض (عمادقاسة أوعك من عمّك وبناتو الجاسرات ديل)
خرجت و في نيتي أن أستخدم معهم نظرية المبادرة والهجوم خير وسيلة للدفاع. سلمت على عمي وكان في سلامه حرارة زائدة عن العادة، مما أكّد لي صدق إحساس أمي التي خبرتهم طويلا. جلسنا أنا وعمي على الكراسي بجانب سرير الوالد المفروش منذ آذان العصر، وبجانبه الكراسي والمنضدة الصغيرة والإبريق والصبّانة والمصلاة.. (كان زمن فيه الرجال رجالاً والنساء نساءاً) وما أن جلسنا حتى ظهرن من النفّاج (باب صغير بين بيوت الأهل والجيران) وهن نفيسة زوجة عمي وبناتها الأربع يتبعهن ابن عمي الصغير محمّد (حمودي) الذي جاء بعد البنات الأربع وكان محبوبا ومدلّلا من الكل، غير أبي الذي كان دائما ينهره عندما يراه مختلطا بالنساء. وكان ذلك يثير غضب نفيسة الخبيثة كما تسميها أمي. وبعد السلام على الجميع انفرد بي الكبار فكان لابدّ من الإقتحام فخاطبت عمي قائلا:ـ من حسن حظي إنك قد حضرت ياعمي لأن عندي موضوعا هاما جدا أريد إخباركما به أنت وأبي ولولا مجيئك لكنت جئتك وطلبت منك الحضور..
قال:ـ قل ياولدي نحن نسمعك، خيرٌ إن شاء الله.
قلت:ـ كل الخير يا عمي أصلا ـ أصلا أنا خطبت بنتا من جيراننا في الخرطوم لكنهم أصلا من هنا من البلد ووالدها زميلنا في الوزارة. وهو موافق بشرط موافقتكم طبعا. والدها إسمه محمد خير ولد عثمان ولد ابراهيم وهو رجل طيّب وعلى خُلق كريم. وأمّها أيضا من منطقتنا، من هنا. والوالدة تعرف جدتها وخالاتها. وقد أثنت عليهم كثيرا..
قال عمي أنا أيضا عرفتهم أبوها سائق عندكم في الوزارة وليس زميلكم أليس كذلك؟؟
قلت:ـ بلى ياعمي لكنه رجل يحترمه الجميع من الوزير و حتى الخفير ولايعيبه أنّه سائق..
فقال عمّي : ـ ولماذا تترك بنات عمك حسب ونسب ومال وطين وتذهب بعيدا لتبحث عن بنات السائقين. أم أنّ بنات عمك الأربعة لم تعجبك فيهنّ واحدة؟؟ ما عليك إلا أن تختار من تريدها منهنّ وتأخذها بما عليها من ملابس، وزيتنا في بيتنا و لن نكلفك مليما واحدا.. (في هذه اللحظة لاحظت أنّ أمي تتأهب للتدخل فأومأت لها بالصبر فتراجعت لخط (الحرامليك..)
قلت:ـ ياعمي والله بناتك من خيرة من رأيت من الشباب أدب وذوق وجمال وحشمة لكنني أراهن مثل أخواتي. فقد نشأن وترعرعنّ بيننا ومع إخواتنا في بيت واحد، لذلك لم أفكر يوما أن تكون واحدة منهنّ زوجة لي. والمثل يقول (البيخجل من بت عمو مابـ.......)ولولا نظرة من أبي لأكملتها بلاخجل..
ردّ عمي:ـ هذا كلام فارغ وتهرب من الموضوع وحسب. كل الناس يتزوجون من بنات عمومتهم.
هنا تدخل الوالد لصالحي على غير ماتوقعت، وقال:ـ خلاص ياحسن النصيب غلّاب يبدو أن لا فائده. ومادام الناس أخلاقهم طيبة ولا يعيبهم شيئ فلنقل خيراً. لكن السفر أنا والله لا أستطيعه، سوف أوكلك إنت ياحسن يا اخي، تسافر معه، وتعقد له وتعود بالسلامة إن شاء الله. وكان ذلك إرضاءا له..
وتنفست الصعداء، فلم يكن الانتصار على هؤلاء الرجال وإقناعهم أمرا سهلا، لكنها دعوات أمي كانت معي. وخرج عمي وحرمه وبناته مكسوري الخاطر وقد والله أشفقت عليهم. ولولا تعلّقي الشديد بتلك اللؤلؤة البضّة، لرضخت لرغبتهم.
هنأتني الوالدة بحرارة، إذ لم تكن تتوقع أن يمرّ الموضوع بهذه السهولة واليسر..
ونمت الليلة ملء جفوني ، و حلمت بلؤلؤتي و حلم حياتي..