5
وفي التاسعة تماما جاء فطور العريس ولم يكن هذا في حسباننا ولافي عاداتنا لكن أختي الخرطومية كانت تعلم. سيارتان بوكس تحملان فطور العريس يصحبه عدد من النساء و عدد من زملائي العُزّاب.. وكان الاستقبال بالزغاريد.. وكميات من اللحوم والطعميات والمحدّقات والشعيريات والمكسّرات والحلويات.. كان إفطارا دسما في ظل الضُحى خارج المنزل أكل منه الغاشي والماشي.. وبعد الفطور إنفرد بي أحد زملائنا بالوزارة ويسكن معنا وسلّمني مبلغ ثلاثمائة جنيه جمعها الزملاء وهو مبلغ كبير يساوي مرتبي ست مرات تقريبا. كما سلّمني رسالة جاءتني بالبريد يبدو أنّها من الخارج. ووضعتها قي جيبي ريثما أودّع الضيوف.. وبعد الفطور والشاي خرجت النساء من منزل أختي وكلّ منهنّ تحمل لفافة مغلّفة بالسلوفان، هدية من العريس، كانت أختي قد جهزتها لهنّ من حرّ مال زوجها الحبّوب، وكانت ثوب لكل واحدة.. حاولت دفع قيمة الهدايا لأنّ ما تحملاه من ضيافة الوفد كان يكفي. لكنهما رفضا بإصرار.
وبعد مغادرة الضيوف تذكرت الرسالة غريبة الشكل وأخرجتها من جيبي بعد أن دخلت المنزل وجلست بجانب عمتي (صاحبة المحفظة)، كانت رسالة مسجّلة من الأمارات العربية كما اتضح لي من الأختام والطوابع.. فتحتها بحرص وعمتي ترمقني بقعر عينها و هي ما زالت تأكل لوحدها.. يا اااااا لله إنّها أول رسالة تأتيني من صاحبيّ سليمان وبلبل (رسالة مشتركة) هل تذكرونهما؟؟ وقبل أن أبدأ قراءة الرسالة لاحظت أنّ بها محتويات أخرى. يالله مبلغ من المال وبالدولار، في حواله تصرف من البنك (خمسمائة دولار) من صاحبيّ سليمان وبلبل. وكانا قد علما بخبر زواجي من زميلنا الطاهر، ذاك الأعرابي الذي مازال يقبع في البنك.. وواصلت قراءة الرسالة.. وكان الخبر المهم جدا جدا جدا...... هو فعلا خبر يساوي الكثير. فصديقي الحميم سليمان قد وجد لي وظيفة محترمة في شركة من شركات بنك أبوظبي الوطني الذي يعمل به.. (رئيسا للحسابات في شركة عقارية تابعة للبنك) وبمرتب شهري ستة آلاف درهم مع السكن المجاني والسيّارة الفارهة.. وكان عليّ في خلال خمسة عشر يوما أن أعمل تأشيرة الخروج، وأستخرج رخصة القيادة وأحجز للسفر.. ولم تسعني الفرحة. فالتفتّ إلى عمتي وقبّلت شلوخها الأفقية الست دفعة واحدة.. فالتفتت إليّ وقالت بأسلوبها الساخر :ـ (السليم ده وفّروا راجيك سلّيم كتير تسلّم لامن تاباه) كان لا بدّ أن أقتحم كل العوائق وأوصل الخبر للؤلؤتي البضّة بنفسي.. قمت مسرعا دخلت الحمّام وتلبّست وخرجت ممتطياً صهوة التاكسي من شجرة ماحي بيك حيث منزل أختي إلي حيّ الصحافة حيث منزل العروسة.. ووجدت العم محمّد خير خارج المنزل ومعه الشباب من الحي ومن الوزارة بالإضافة لزملائي في بيت العزّاب وكلهم تحت الخدمة وقد نصبوا صيوانا كبيرا وذبحت الذبائح بليل، والطباخون يعملون بهمة. واستقبلني العم محمّد خير مبتسما وهو يقول:ـ يازول العريس مابيمرق براه كدي.. إنت الليلي فوقك الملايكة..
قلت له:ـ جئتكم لسببين الأول لأرى كيف تسير الأمور. ولو محتاجين أي مساعدة فالشباب جاهزين.. السبب الثاني عندي خبر جدّ مفرح للعروسة ولا بدّ أن أقوله لها بنفسي والآن.. عندك مانع ياعمّنا..
قال:ـ لا والله ياولدي ما عندي مانع لكن عليك بالصبر قليلاً، فقد بقيت ساعات وتصبح زوجتك.. صبرا يبلّ الآبرى ماعندك؟؟
قلت:ـ لا و الله لا أستطيع الصبر ولا بدّ أن أقابلها في الحين ولوحدها..
قال:ـ (وهو يقودني نحو الباب) هي ومعها رفبقاتها تجلس في تلك الغرفة (غرفة العمليات) حيث يتمّ تجهيزها، أن كنت تستطيع الدخول، فالباب مفتوح أمامك.. قالها وهو يتوقع أن أتراجع. ولكن هيهات هيهات.. دخلت متوجها نحو الغرفة ولحسن حظي وجدت أمها في ساحة المنزل.. ووسط إستغراب الحاضرات ناديتها.. كانت إمرأة من الطراز القديم جدا، لكنني وضعتها أمام الأمر الواقع وفجأة وجدتني أمامها أمدّ يدي للسلام عليها. تلخبطت المسكينة قليلا ثمّ تبلّمت وسلّمت عليّ ويدها تحت الثوب.. مسكينة جدا هذه المرأة.. آثرت أن أستخدم معها جرأة عمتي وسخريتها من الحياة والحياء.. فخاطبتها بجرأة شديدة..
قلت لها:ـ ياحاجة عشة عندي غردا مهم بالحيل طالبو منك لازم تسويه لي هسّعتي..
قالت:ـ قول ياولدي إن شاء الله خير قطعت قلبي..
قلت:ـ كل خير يا خاله عندي خبر مفرح وأريد أن تكون عروستي أوّل من يسمعه مني عندك مانع؟؟
قالت:ـ نان ماتصبر تقولو ليها بعدين في الكوشة بعدين.. أسّع صاحباتها قاعدات معاها..
قلت :ـ لا لا ياحاجة مابقدر أصبر.. يعني شنو لو شفتها هسع؟؟ داير آكلها ولّلا يعني داير آكلها.. والله لو ماشفتها بقع لك وإندردق في الحوش ده.. والحريم يقولن عريس بتك مجنون.. عندها تجرأت المسكينة وأمسكت بيدي وقادتني نحو الغرفة وهي تقول :ـ هوي يابنّوت أمرقن لابره الولد ده جايي عنده كلام مهم جاي يقولو لي عروسو. ولما فرغت من كلامها كانت قد توسّطت بي الغرفة ورأيت العجب العجاب. البنات بعضهن يتمسح و إخريات يتسرّحنّ و متكشّفات بلا حدود.. و ساد جو من الفوضى والهلع وفي لحظات كانت الغرفة فارغة إلا مني والعروسة وأمها. نظرت لأمّها بعين حاااااارة فخرجت وهي تقول:ـ أترك الباب مفتوحا ولاتسدّه. لكنني أغلقت الباب وراءها بالضبّة والمفتاح.. ورجعت للؤلؤتي و قد غطّت جسدها بالكامل و أدلت الثوب على وجهها..
قلت لها:ـ يابت ياماجدة أفتحي وجهك أنا عندي لك مفاجأة جميلة أريد أن تكوني أول من يعرفها..
وفتحت وجهها و قالت:ـ إنت الليله ماطبيعي.. مالك جايي هايج كده؟؟؟
قلت:ـ لا والله ما أنا بهائج لكنني فرح بك ياقدم السعد عليّ.. تخيلي في صباح هذا اليوم السعيد استلمت تأشيرة دخول للأمارات وعقد عمل بمرتب خيالي بالإضافة لبدل السكن والسيّارة و هذا هو العقد أنظريه.. والسبب الذي جعلني أقتحم عليك بهذه الطريقة، فقط لأنني لا أريد أن يعرف هذا الخبر أحد قبلك أنت.. والسفر سيكون بعد أسبوعين على الأكثر.. وسال الدمع على الخدود اللؤلؤية.. وغطّت وجهها مرّة أخرى.. فتحت وجهها وجففت الدموع بمنديل كانت قد أهدته لي ولم أستعمله إلا الآن ليتعطّر بالدموع التي لم أر في حياتي دموعا أجمل ولا أروع منها.
قلت لها:ـ ما يبكيك يا حبيبه؟؟
قالت:ـ يبكيني سفرك وفراقك.. (يا الله ما أسعدني)
قلت لها:ـ أترك السفر وأمزّق التأشيرة فورا (وأمسكت بالورق وكأنني أريد تمزيقه) وقامت لتوقف جنوني وأمسكت بيدي.. فكانت فرصة سانحة لي لتذوق طعم الدموع.. وبعدها هرولت خارجا وتركتها تصفني بالجنون !!
أكيد مجنون .. وانتو جنوني ياحلوين ..
رجعت من توّي لشجرة ماحي بيك لأخبر أهلي خبر اغترابي وكنت أظنّهم سيفرحون لي.. وكانت أولهم عمتي الكبرى التي قالت لي.. ياولدي إنت الناقصك شنو لامن دار تغترب.. العرس وبيتم ما باقي غير القليل أبوك بيتمو ليك.. وابوك زاتو مابيرضى سفرك.. دحين هسع جريت كلّمت العروس قبالنا مالك؟؟ أنا من مرقت من هني عرفتك شايلّ لك خبرا موديه ليها أنا باقي عاجناك وخابزاك.. تلقاها هي الزاكاك علي السفر و الغربة.. دايري تجي راجعي سميني زي البرميل و مكشكشه دهب.. (و الله ياهو موكدي؟؟)
قلت لها :ـ لا والله ياعمتي العروسة ليس لها أي دخل في هذا الكلام وهي ليست راضية عن سفري. لكنني أقنعتها بصعوبة شديدة وتركتها تبكي وجئت إليك لأبشرك بعدها.. وأنت تعرفين قدرك عندي. أستحلفك بالله الّا تخزليني.. فحبي لك يأتي بعد العروسة مباشرة (وقبّلت الشلوخ مرة أخرى)
فقالت:ـ (روح يا أونطجي) ..
ثمّ تدخلت الوالده وقالت:ـ والله أبوك لن يرضى بسفرك هذا.. وهو أصلا غير راض من عملك في الخرطوم وكان يريدك أن تجلس معه في الدكان.. أبوك كبر ياولدي وأنت ولده الكبير والمفروض إنّك تقعد في العقاب وها أنت تريد أن تبتعد أكثر..
قلت:ـ طيب ياجماعة الخير، كان الأفضل من زمان نختصر المشوار ونترك الدراسة ونشتغل في الدكان!! وهنا تدخّلت عمتي وقالت:ـ بسسسس قراية شنو كمان ماكان تقرالك طب ولّلا هندسة.. مو ياهو الحساب دا؟؟ أبوك قروشو النار ما تاكلن غير الحق والتمور ما تقعد تحسبن.. (عجايب!!!)
قلت:ـ خلاص يا جماعة فلننسى الموضوع مؤقتا ونتم عرسنا ثمّ بعد ذلك نرى ما يكون. وخرجت لأرى رأي الرجال، علّهم يفهمونني.. جلست في الصالون بجوار خالي أحمد الذي حضر من بورتسودان على التو لحضور عقد قراني ومعنا ابن عمي وزوج أختي الكبرى عبد الله.. وبعد أن استقبلني خالي بالأحضان، وتبادلنا التحايا والسؤال عن الأهل والأبناء، أخبرتهم خبر اغترابي فاندهشوا، وكان رأيهم مطابقا لرأي العمّة والوالدة.. ولكنني أقنعتهم بأنني لن أمكث أكثر من عامين أو ثلاث على الأكثر، لأبدأ حياتي هناك بعيدا عن البلد وأجمع بعض المال لتكوين بيتي من حرّ مالي ثمّ أعود. قال ابن عمي لكنك سوف تفقد الوظيفة الميري وحقوقك المعاشية. (أفكاره عقيمة هذا الرجل مع أنّه ليس كبيرا جدا) ضحك خالي وقال له ياأخي الراجل محاسب شاطر وممكن يرجع يشتغل في أي شركة أو بنك بأكثر من ضعف مرتب الميري بتاعكم ده. ووجدت سندا كبيرا من الخال العزيز الذي كان تاجرا كبيرا في مدينة الثغر وكان عنده قدرة كبيره على الإقناع.. وأقنع الوالدة (وهي دائما تحلف به ورأيه عندها مُنزل).. وحتى عمتي العنيدة أقنعها بصعوبة بالرغم من أنها لاتحبه وتصفه بالطغيان.. وفائدة إقناع عمّتي كبيرة جداً. فهي الوحيدة التي تستطيع إقناع الوالد. و بذلك ضمنت السفر ورضا الجميع عنّي. وها قد اقترب موعد عقد قراني.. وكان لابدّ من دخول الحمّام مرّة أخرى. والإستعداد للعقد والحفلة.. وبعدها أخذت خالي جانبا وقلت له:ـ طبعا حسب التقاليد المفروض أن تكون أنت وكيلي في العقد.. ولكن عمّي قد حضر معنا نيابة عن الوالد وأوكل له الوالد المهمة إرضاءا له (وحكيت له قصتي مع عمّي في البلد) فتفهّم الموضوع، وقال لي كرامةً مرقتك من الولية الشوم دي (يقصد زوجة عمي) أنا متنازل لعمّك.. وقد كان كما أمي لا يحب عمي ولا زوجته..