لونك المفضل

المنتديات الثقافية - Powered by vBulletin
 

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: شموع ودموع (قصة في حلقات)

  1. #1
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية خالد البدوي
    تاريخ التسجيل
    10 2012
    المشاركات
    10

    شموع ودموع (قصة في حلقات)

    شموع ودموع
    مقدّمة
    هذه قصة أشخاصها خيال، أتحدّث باسم بطلها حتى أستطيع تقمّص شخصية البطل
    والغوص فيها بكل أحاسيسي..
    القصة اجتماعية نفسية، إختلط فيها الواقع بالخيال. كتبتها كما تكتب القصيدة، وبكل
    أعراض كتابة الشعر من معاناة ومخاض..
    كنت أعيشها حقيقة بكل مشاعري. سكبت فيها فرحي كلّه في مواقف الفرح، وعطنتها دمعا وحزنا في ساعات الحزن..
    أرجعت كبسولة زماني وعشت الشباب بكلّ حيويته روحا وجسدا..
    استغرق تأليفها شهرا بالتمام والكمال، عشته عريسا كامل الدسم. حتى وصفني من حولي بالمراهق العجوز.
    هذه القصة وقصص أخرى أرجو أن ترى النور ليست وليدة اللحظة، لكنها ظلّت بدواخلي في حالة بيات لعشرات السنين، وقدّر الله أن تخرج من مكمنها وكنت أظنّها ذابت مع السنين. لكنني الآن رغم تجاوز سن الانفعال أشعر أنني أستطيع تحمل المخاض لإخراج ما ظلّ كامـنا في دواخـلي بعد طول سـنين..


    شموع و دموع
    1
    امتحنت الشهادة الثانوية المساق الأدبي في أوائل العقد الثامن من القرن العشرين، وتحصّلت على نسبة لا غبار عليها أدخلتني كلية التجارة بجامعة القاهرة بالخرطوم. ولمّا كانت المحاضرات تبدأ بعد الرابعة عصرا وحتى الثامنة مساءاً، كان لابدّ من إيجاد عمل لمقابلة المصروفات الكثيرة. وكان المأكل المشرب والسكن وكل الحاجات زهيدة ولاتتعدى في جملتها نصف راتب خريج الثانوي (Scale J) لو نظّم نفسه وابتعد عن الموبقات. أو كان متزنا في موبقاته. ولمّا كانت الموبقات أمرا عاديا ومن لا يتعاطاها غير عادي بمفهوم جاهلية ذلك الزمان الغابر، حيث كان الخمر مباح و على قارعة الطريق، وللفاحشة تسجيلات وتراخيص وصفوف تتفوّق على صفوف التموين في زمن إنعدمت فيه صفوف التموين، كان الاتزان في ذاك الزمان هو الحل الأمثل. ولم تتعدى موبقاتي وأصدقائي سهرات الخميس فوق أسطح الفنادق. كنا أربعة أصدقاء من الطلاب الموظفين. أنا و سليمان و نبيل (بلبل) و ذلك الأعرابي الطاهر الذي كان يفارقنا عند باب الفندق حيث لم تفلح محاولات بلبل لجره لعالم الضوضاء والهجيج. كان الثلاثة يعملون في أحد البنوك بينما أعمل أنا في وزارة سيادية (مجرّد كاتب) ولكن راتبي لم يكن يقل عنهم، بل يزيد، خاصة و أنني كنت أعمل بمكتب الوزير وأتقاضى حوافز و بدل وجبة ثلاثة جنيهات كل خميس، كانت تكفي لمقابلة الضرورات و الرفاهات المتّزنة. وكان أصدقائي هم:ـ
    سليمان:ـ أحبّهم إلي قلبي كان وسيما رقيقا ومتزنا ومهتما بالدراسة والجامعة، وكان يعينني كثيرا فيما يفوتني من محاضرات بسبب العمل الإضافي في مكتب الوزير أحيانا. بل كان في أيام الامتحان يترك أهله ويرحل معي في منزل العزّاب..
    نبيل:ـ (بلبل)كان يعاني كثيرا من لا مبالاته. كان يوم الخميس عندما نقترب من الفندق إياه، يردد أغنية خليل إسماعيل (بكره ياااا قلبي الحزين تلقى السعااااادة) كان صوته شجّيا، هو بلبل بالفعل (إسم على مسمّاه) كنّا بعد سماع النغمة الإبليسية الشجية، لا نمتلك إرادة، فنصعد السلّم الوحيد الذي يسهل صعوده ويصعب نزوله. هكذا كنت أصف سلم الفندق المؤدي لحديقة السطوح فوق الطابق الرابع..
    الطاهر:ـ ذاك الأعرابي الهميم، كان عاقلا لدرجة الهبل (وهكذا كان العقل يسمى هبلا) هذا الأعرابي جمع المال و تزوّج من بنت خالته ونحن في السنة الثالثة، وحتى في احتفالنا به ليلة عرسه لم يشاركنا الثمالة. و لكن رغم اختلافه عنّا، لم نكن نفترق أبدا إلا عند باب السلّم. أقصد باب الفندق. كنّا أربعتنا نلتقي عند الثالثة في مطعم الإخلاص بالسوق العربي (وما أشهاه من مطعم) كانت طبخاته الفاصوليا والرجلة والسبانخ أفضل من طبخ الكثير من ستات البيوت القديرات. والمكرونة بالفرن، وما أدراك ما المكرونة بالفرن، صاحت عصافير بطني. والتحلية الكريم كرملة، سال لعابي. ونذهب بعد الغداء إلي جامعة وصفها أحد وزراء ذلك الزمان بجامعة مابعد الغداء!! وما أكثرك اليوم يا جامعات على مدار الساعة!!!
    كانت السنة الأولى في كلية التجارة صعبة جدا، إذ كان عدد المقبولين ثلاثة آلاف طالبا في مدرّج واحد يسمونه الصين الشعبية. وكان بعض الطلاب بحضرون وقوفا وعبر النوافذ و الأبواب. وبالرغم من لكننّا كنّا نحتل موقعا أماميا مخصصا لنا، إذ كان بعض الأصدقاء من الجنسين المتفرغين للدراسة يأتون مبكّرين ويحجزون لنا المحل بشنطهم. وقد كنّا في البداية نواجه الكثير من الاحتجاجات، ولكن بمرور الأيّام أصبح الموقع حكرا علينا ولا يستطيع أحد احتلاله حتى ولو لم يكن محجوزا بالشنط الستاتية. وعلم المحاسبة لمن لا يعرفه يكون في البداية صعبا، ومعظم الطلاب يخرجون من المحاضرة كمن سمع لغة لايعرفها (رطانة). أما نحن الأربعة فقد كنّا بحكم عملنا في نفس المجال نفهم جيدا، ونشرح للزملاء بعد المحاضرة ونعطيهم دفاترنا ليستعينوا بها. و ربما كان هذا سر حرصهم الشديد على حجز الأمكنة. وقد كنّا محظوظين جدا، إذ كان يزور الجامعة في ذلك الزمان عدد كبير من الأساتذة المصريين الذين يعتبرون من دهاقنة علم المحاسبة في العالم كله، أمثال الدكتور بلبع (إمبراطور علم التكاليف) والدكتور توفيق الذي شغل منصب رئيس الوزراء في مصر وكان متخصصا في المحاسبة المالية. والدكتور حلمي المنمّر، وآخرون كثر، رحمهم الله أحياءاً كانوا أو أمواتاً، بقدر ما أفادونا وجعل عملهم الجليل في موازين حسناتهم..
    وكان من أبرز معالم الجامعة العم سعد، وهو عامل في الجامعة لأكثر من أربعين عاما. كان ينهي ويأمر ويحترمه الكبار قبل الصغار. الكل يكنّ له كلّ الاحترام والتقدير. طلبة ومعيدين وحتى الأساتذة الكبار. قال لنا عنه الدكتور حلمي:ـ (عمّكم سعد هذا لوكان يسمع كلمة واحدة كل مرة يدخل فيها المدرّجات، لصار مدير الجامعة).
    ومن معالم ساحة الجامعة المشهورة ذاك السبّاح الأسمر طويل الاطراف والقامة. دخلنا الجامعة ووجدناه (إن لم تخني الذاكرة) في السنة الثانية في كلية الحقوق كان يقف في ساحة الجامعة شامخا مثل تمثال رمسيس الثاني، ويتحلّق حوله الشباب من الجنسين، ولا أدري ماكان يقوله لهم ويستمتعون ويضحكون. وماكان عندنا طاقة للوقوف بعد المحاضرات بعد إرهاق اليوم الطويل. تخرجنا في الجامعة وتركنا صاحبنا يمارس هواية الوقوف في ساحتها، ولا أدري متى تخرج. لكنه بالتأكيد كان يأتي للجامعة ترويحا عن نفسه وماكان يحتاج شهادة أو وظيفة.
    و المعلم الثالث هو تلك الكلاب الكسولة التي تحتل مكانا ثابتا في الساحة الكبيرة، تقتات من فضلات ساندوتشات الطالبات، حين كانت هنالك فضلات، وحين كنّ يأكلن كما تأكل العصافير..
    وجاء يوم الامتحان (يوم يُكرم المرء أو يهان) ونهاية السنة الأولى ونجحنا أربعتنا في كل المواد، وكذلك أصدقاؤنا من الجنسين وكل المتعاونين معنا في حجز الأمكنة، المستفيدين من خبراتنا و دفاترنا، لم يتخلّف منا أحد رغم أنّ المنتقلين للسنة الثانية كانوا ستمئة فقط من مجموع الثلاثة آلاف نسمة. وبقي أربعة أخماس المدرّج مكانهم في مدرّج الصين الشعبية. وكانت فرحتنا بالنجاح كبيرة. واستمرّ حالنا على نفس المنوال طيلة السنوات الأربع حتى تخرجنا أربعتنا دون تخلف ولم نترك سهراتنا الخميسية الممتعة. وحتى في الإجازات كنّا نلتق عند مدخل فندق الليدو الشهير في تمام السابعة مساء كل خميس، وحتى بعد التخرج لفترة، كنا نمارس اللقاءات حتى فرّق بيننا الزمان.
    إغترب سليمان و بلبل لبنك أبوظبي الوطني و بقي إبراهيم في بنكه وبقيت أنا في وزارتي مفتّشا بالدرجة (Q) بدلا عن مجرّد كاتب. وفي ذات بوم عمل شاق خرجت من الوزارة متوجها نحو محطة البصات دون أن أتوجه لمطعم الإخلاص كعادتي منذ سنين لتناول وجبة الغداء. كنت مرهقا جدا فقررت أن أذهب للبيت (بيت العُزّاب) مباشرة وأنوم، ثمّ بعد ذلك أفكّر في طريقة أتغدى بها، حتى لو اضطررت أن أتغدى بالزبادي والطحينية. وتوجهت لمحطة البصات، و ركبت بعد عراك عنيف واحداً من تلك البصات البالية ذات اللون الأزرق الباهت. تحرك بنا البص متلكئا عبر الشوارع المزدحمة حتى نمت من فرط تعبي نوما عميقا. وصحوت إثر وقوف البص في المحطة الواقعة جنوب حديقة القرشي. يالله كان حلمي طويلا أثناء النوم. خطبت وسافرت للبلد وتزوجت في حفل بهيج شاركني فيه أصدقائي الثلاثة. حلم طويل جدا، يستغرق أياما عدة لو حدث في الواقع، ويستغرق ساعتين من الحكي المتواصل لو قصصته لكم. وكل ذلك لم يستغرق سوى عشرة دقائق تقريبا. وبدأت أفكّر بطريقة فلسفية في مقاييس الزمان بين الحلم واليقطة.




  2. #2
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية خالد البدوي
    تاريخ التسجيل
    10 2012
    المشاركات
    10

    رد: شموع ودموع (قصة في حلقات)


    2
    وقطعت تفكيري لكزة خفيفة عبر النافذة .
    يالله!! رشقتني عيونها بسهام اخترقت شغاف قلبي..
    كادت تقتلني..
    لم أر في حياتي عينين بهذا الجمال والبريق..
    لم أتمعّن في شيئ سوى العينين. وكيف أعبر هذه الأمواج الزرفاء..
    (إني أغرق.. إني أغرق.. إني أغرق.. لم تكن عندي تجربة في فنّ العوم، ولا عندي زورق.)
    كانت تريدني أن أحجز لها الكرسي الخالي بجانبي بعد نزول من كان يشغله، (ولا أذكر إن كان رجلا أم امرأة) ناولتني شنطتها المدرسية وكيس به موز. وتحركت فورا للمقعد الخالي بجانبي ووضعت حاجياتها في مكاني..
    في تلك اللحظة كان أحد الطلاب يريد الجلوس بجانبي لكنني سبقته وحجزت لها المقعد. واحتجّ الولد الملعون بلؤم شديد..
    فقلت له ببرود :ـ إن أردت أن أحجز لك مقعدا في المرّة القادمة، فما عليك إلا أن ترتدي خمارا. ضحك الركاب مما زاد غيظ الولد، وكاد أن يشتبك معي بالأيدي، لولا أن أن أمسك به رجل كبير في السن وزجره. وقبل أن تركب صاحبة العيون كنت جائعا، ففتحت كيس الموز وأكلت منه واحدة. ولمّا ركبت بجانبي أخبرتها بأنني أكلت الموزة لأنني جائع ولم أتغدّى. فتحت الكيس وأعطتني أخرى فالتهمتها بسرعة البرق. أدخلت يدها في الكيس مرة أخرى لتناولني أخرى، وسمعتها تقول بصوت منخفض، (وا ااا اااا شريري) فأيقنت بأنها من بني (شايق) أمسكت بيدها لامنعها من قطع الموزة الثالثة وقلت لها:ـ (خلاص بعد ده لو نمت ما تصحيني للغدي) تعمّدت ان أتحدّث باللكنة الشايقية. فانكفأت الفتاة على ظهر المقعد الأمامي في ضحك متواصل إرتجّت معه كل اللآلئ البضّة، في معزوفة تقول :ـ
    أغلى من لؤلؤة بضّة..
    صيدت من شط البحرين..
    ثمّ بعد أن أفاقت من الضحك سألتني:ـ (ما إسمك؟؟ من أي منطقة أهلك، أين تسكن، مكان عملك ومهنتك؟؟) عرفت سيرتي الذاتية كاملة غير منقوصة. وبعدها جاء دوري وعرفت أنها أصلا من قرية في الشمال مجاورة لقريتنا، لكنها ولدت ونشأت في العاصمة، ولم تر قريتها أبدا. والغريب في الأمر أنّها تسكن مع أهلها في نفس شارع بيتنا العزّابي.. نزلنا في نفس المحطة، ولم تتردد رغم ترددي في السير بجانبي والتحدث معي حتى قطعنا الشارع الطويل ووصلنا لمنزلهم. وعند باب منزلهم قالت لي باللفظ الواحد (علي الطلاق ، حرّم ، ما بتمشي إلّا تتغدى معانا)
    قلت لها :ـ يابنت العم ماذا سيقول عني أهلك؟؟؟ أرجوك أن تتركيني الآن ولسوف أعود في المساء وأزوركم واتعرّف على الوالد. ولكن هيهات هيهات، كانت تمسك بيدي وهي ما تزال تحلف بالطلاق والحرام بصوت عال وتفتح الباب باليد الأخرى، حتى شعر والدها بالحركة وخرج إلينا. إندهشت غاية الدهشة حين خرج إلينا والدها. هو رجل في العقد السادس من العمر، أسمر اللون، متوسط الطول، نحيل الجسم، تتوسط خديه شلوخ أفقية شايقية.. هو نفسه العم محمد خير الذي أعرفه تماما.. يعمل رئيسا لسائقي السيارات في نفس وزارتنا. رجل أكنّ له كل الإحترام والتقدير. متدينا تماما لا تفارقه المسبحة. يصلي بنا إماما في مسجد الوزارة. فقد كنت رغم اعتناقي حزب الوسط، محافظا على صلواتي، كان الكل يحترمونه من الوزير الذي اختاره لقيادة سيارته بالرغم من أنه رئيس السائقين، وحتى أصغر سعاة الوزارة. الكل يناديه بالعم محمد خير حتى الذين في عمره. ابتسم الرجل ابتسامة عريضة حين رآني وعانقني رغم حيائي منه و أنا قادم مع ابنته. وحين لاحظ انكماشي قال لي:ـ لقطتك من وين الليلي الخرابة دي؟؟ولا يهمك يا ابو الخلد. أنا ماجدة بنتي هذي تساوي عشرة رجال. لست خائفاً عليها لأنني ربيتها على الثقة والصراحة (آآآآه نسيت أن أقول لكم أنّ إسمها ماجدة محمد خير) لكن هي لاتتعامل بهذه الطريقة إلا مع الأقارب والمعارف المقرّبين!! قل لي كيف عرفتها وأين التقيت بها ولا تخفي عنيّ شيئا فأنا أعرف أخلاقك تماما كما أعرف بنتي.. فحكيت له قصة البص والموز بكل تفاصيلها. فضحك كثيرا..
    قلت له:ـ لكن لماذا لا تسالها هي وتسألني أنا؟؟
    قال لي:ـ أنا لا أشك في حسن تصرفها ولو سألتها ربما تظن أنّ ثقتي بها قد اهتزّت. بصراحة ياولدي أنا أحيانا أخاف منها أكثر من خوفي عليها، ولا أحتمل غضبها أبدا أبدا. وجاءت اللؤلؤة البضّة تحمل الغداء ولم تخلع زيّها المدرسي بعد. ملاح الورق المفروك بالكسرة البيضاء، وفوق الكسرة لحيمات محمّرات، وبجانبه صحن السلطة الطازج (طماطم ، بصل أخضر ، جرجبر ، عجور). تذكّرت أمي والله في تلك اللحظة. فملاح بهذا الطعم البلدي ولحم ضأني شهي موضوع فوق الكسرة والسلطة الخضراء. منظر لم أشهده وطعم لم أذقه منذ أن فارقت أمي. ثمّ كانت البطيخة الحلوة المترمّلة والموز (وتمت الناقصة) وعمّنا محمّد خير يمسك بي كلّما أردت مغادرة المائدة مع الإصرار والحلف، حتى ظننت أنني لن أستطيع القيام وقد ملأت الثلث الثالث من وعائي. ولم أبارح حتى قضيت تماما على الأخضر، حيث لا يوجد على السفرة يابس. وبعد أن غسلت يديّ من الماسورة خارج الغرفة، حيث يتكوّن المنزل من ثلاث غرف لارابع لها من اللبن (الجالوص) ولا توجد به فرندات، وحمام بجانبه الماسورة تصبّ في بالوعة الحمّام، ومرحاض في الركن القصي منقسم لجزءين. بيت في منتهى البساطة، لكنه غنيّ بكرم أصحابه وتحضّرهم ونظافتهم وظرفهم. الأسرة الصغيرة تتكون من عمنا الشيخ محمّد خبر وحرمه المصون عائشة والإبنة الكبرى في ترتيبها ومقامها ماجدة تليها مواهب ثمّ الولدين المهذّبين أحمد وشهاب. الكل يعيش في إلفة ووئام في كنف الوالد المتدّيّن المتحضّر في تعامله والأم الحنون البسيطة التي جاءت وجلست معنا بعد الغداء لتتعرّف عليّ، حين علمت أنني من البلد (كما يقول أهلنا).. الشيئ الغريب أنها جاءت إلى الخرطوم و كان عمرها أربعة عشر عاما وهي عروسة، ولم ترجع للبلد سوى مرّتين كانت أخراهما قبل خمسة عشر عاما، لكنها تتحدث بلهجة شايقية أصيلة لايتحدثها القابعون هناك طيلة حياتهم. ثم جاءت اللؤلؤة البضّة تحمل الشاي تفوح منه رائحة النعناع أو ربما القرفة لا أدري أيهما، فقد اختلط حابل حواسّي بنابلها. جلست بجانب والدتها غاضة طرفها في حياء جمّ، وكأنها هي ماهي تلك التي جرّتني من يدي من الشارع وهي تحلف بالطلاق والحرام. كانت ترمقني كما أفعل خلسة (بطرف العين) ولاحظنا الوالدان، وحين شعرت خرجت مسرعة وكاد قلبي ينخلع وراءها. شربنا الشاي ولم يبق لي سوى أن أغادر مستودعا قلبي الله. خرج معي العم محمّد خير مودّعا حتى الشارع، وقبل مغادرتي وصفت له بيت العزّابة وكان على مرمى سهم، على ناصية الشارع الثاني من بيتهم. ودعوته لزيارتي وشرب القهوة معي. قال لي وهو بيتسم:ـ ومن سيصنع لنا القهوة؟؟؟ قلت له :ـ أنا أجيد هذا العمل تماما. أو تدرون ماذا كان ردّه؟؟ يا لحنكة وذكاء هذا الرجل!! فقد إختصر لي مشوارا طويلا..
    قال لي :ـ لا لا لا أنا لا أشرب قهوة العُزّاب.. لو ماجبت المره وانت راقد علي قفاك تنهر، يا ولية جيبي الجبنة وشمينا ريحة القلية يبقى مافيش فايدة..
    تشجّعت وقلت له :ـ طيب خلاص يا عم محمّد يدي على كتفك وأنا أتزوّج فورا..
    قال:ـ أنا تحت أمرك ياولدي ولن أتوانى في تقديم عمل الخير ماذا تريد مني يا ولدي؟؟
    قلت :ـ أريد ابنتك المصون ماجدة زوجة لي، على سنة الله ورسوله. لم يتفاجأ الرجل فقد كان يعرف أننى قد تركت قلبي في بيته، و أنّ ابنته سوف ترضى بي زوجا. لكنه تظاهر بأنّه تفاجأ..
    قال لي:ـ يعني إنت قابلتها من قبل ونجّضتو موضوعكم وجايين تستهبلوا علينا؟؟
    قلت:ـ لا و الله يا عمّي فأنا لم أقابلها قط من قبل سوى اليوم وفي البص وكما حكيت لك تماما، بلا زيادة ولا نقصان..
    قال:ـ ولكن كيف تحدد مصيرك هكذا دون أن تعرف العروسة وأخلاقها وأهلها، ودون أن تستشير أهلك فربما يكونوا قد حجزوا لك عروسة من أهلك..
    قلت:ـ كلّ هذه الأمور ستتم على أحسن مما يكون فأنا أعرف الأصول جيدا يا عمّي.. وأما عن معرفتي للعروسة..
    فأولا:ـ يكفيني أن تكون هي ابنتك، وتا الله لو كنت أدري أنّ لك ابنة لتقدمت لخطبتها حتى ولو لم أرها قط. والمثل يقول الما شاف فاطني يشوف مُحمد في السوق..
    ثانيا:ـ أحيانا تلتقي بأحد الناس للحظات فتعرف عنه كل شيئ وأحيانا تعاشر أحد الناس سنينا طويلة ثمّ يتضح أنّك لاتعرف عنه شبئا. وأنا قد خبرت عن ماجدة كلّ شيئ من أول لحظة رأيتها فيها..
    قال:ـ وهو يجرّني نحو الداخل مرة أخرى.. وماذا عرفت عنها؟؟؟ وجلسنا على كراسي البلاستيك في ظل العصر داخل ساحة المنزل..
    قلت:ـ أولا:ـ وهي تناولني الموزة وتقول وااااشريري عرفت شيئين. أولهما أنّ بقلبها حنية تسع الدنيا بحالها. وثانيهما أنّها متربّية على الأصول القديمة. فكلمة وا شريري لها وقع خاص في نفسي.
    ثانبا:ــ سيرها بجانبي من الشارع الرئيسي وحتى باب بيتها ووسط حيّها ومعارفها دون تردد أو خوف من القيل والقال. فهذا يدل على ثقتها الكبيرة بنفسها، ومعرفة أهل الحي بحسن خلقها. وأنّها اجتماعية وكل أهل الحي يعرفونها. وقد مررنا بعدد من أهل الحي رجالا ونساءا، شيبا وشبابا من الجنسين، وما من أحد منهم إلا وقد سلّم عليها باسمها، وباحترام شديد. وقد أحسست أن الكلّ يرتاحون لها، ويقابلونها بصدور رحبة.
    ثالثا:ـ إصرارها الشديد على دخولي منزلكم والغداء معكم دون إخطاركم، يدلّ أيضا على ثقتكم بها وثقتها بنفسها وقوّة شخصيتها. وفوق ذلك كله كرمها وجودها من الموجود. فهذا يعني أنها تصلح أن تكون ربة بيت يقصده الأهل والضيوف. و هكذا أرجو أن يكون بيتي..
    رابعا:ـ........
    قال:ـ يكفيك يكفيك، لا رابعا لا خامسا، أنت فعلا تعرفها تماما وتستحقها لو وافقت. أمّا عنّي أنا فبعد الذي سمعته منك فو الله لو خيّروني أن أخطب لبنتي لما ترددت لحظة في اختيارك.. فأنت والله رجلٌ تُخطب..
    وناداها:ـ ياماجدة ياينتي تعالي.. وكرر النداء عدة مرات، ولاحياة لمن تنادي. وبعد قليل جاءت أمّها وقالت وهي تتلعثم:ـ ياراجل تكورك كدي مالك!! قالت لك خلاس موافقي لكن مابتجي، خجلاني..
    قال:ـ يا امرأة موافقة علي ماذا وتخجل ممّاذا ليس معنا أحد، هو نفسه الرجل الذي جاءت تجرّه من الشارع..
    قالت :ـ هي كدي خلّ الكلام الني ده..نحن سمعنا كلّ مادار بينكما من حديث..
    شدّ الرجل على يدي وهو بقول:ـ مبروووك يا عريس أنت أهلا لها وهي أهلا لك..
    فقمت على الفور و قبّلت رأسه أنا أتمتم:ـ يستاهلك الخير يا صهري، أقصد يا عمّي.. وخرجت وأنا أكاد أطير نحو بيت العزّابة لأحكي لإخوتي ما حدث لي خلال ساعتين. شيئ يفوق الخيال. وقررت أن أذهب للوزارة في اليوم التالي وأطلب إجازة محلية أسافر لبلدنا لإخبار الوالد والوالدة، وإحضارهم ليخطبوها لي..


  3. #3
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية خالد البدوي
    تاريخ التسجيل
    10 2012
    المشاركات
    10

    رد: شموع ودموع (قصة في حلقات)

    3
    وكان السفر باللوري النيسان صباحا باكرا يوم السبت. ورغم صعوبة السفر في ذلك الزمان، إلا أنّ هذه السفرة كانت مختلفة جدا. فلم أشعر بذلك التعب الذي كنت أهابه كثيرا. سافرت معتليا سطح النيسان حيث لم أتمكن من الحجز ولا مجال للتأخير ليوم واحد، حيث كانت إجازتي (محليّة) لمدة أسبوع واحد لاغير.
    كان سائق البص جابر، ذلك الرجل الطيّب القدير الصبور عليه رحمة الله، قد وقّانا (بعد الله) شر الوحل والتوحّل، لم يستعمل المساعدون الصاجات البتة في ذلك اليوم السعيد. ووصلنا البلد عصر اليوم نفسه في تمام الساعة الثالثة بعد الظهر. دخلت بيتنا ووجدت الوالد وإخوتي الصغار جالسين تحت شجرة النيم الكبيرة الظليلة وسط ساحة الدار في انتظار صينية الغداء. سلّمت عليهم وكان شوقي لإخوتي الصغار شديدا، حيث لم أسعد بلقائهم منذ خمس سنوات. حيث كنت أستقلّ عطلتي السنوية للإمتحانات. وبما أنّه قد تمّ تحويلي للوظيفة الجامعية بالدرجة (Q)، فقد كان عليّ أن أواصل عاما ونصف العام حتى أستحق الإجازة السنوية.
    ولا شك أّن ّالوالد كان مستغربا حضوري، لكنه لم يسألني، بل قال لي بعد أن سلّمت عليهم ولحقت بالوالدة والأخوات في المطبخ وسلّمت عليهنّ. بعدها أمرني الوالد بدخول الحمام سريعا لأنهم سوف ينتظرونني بالغداء. دخلت الحمام وخرجت بسرعة حيث جلسنا رجالا وصبية للغداء، حيث هناك كما جرت العادة لا مكان للنساء إلا بعد انتهاء الرجال ثمّ يأخذن الصينية لإصلاحها قليلا و يتناولن وجبتهنّ داخل المطبخ ببطء شديد بعد أن يقدمن الشاي للرجال. وبعد أن تغدينا وغادر الصبية شربنا الشاي أنا والوالد في نفس المكان. حيث الشاي كان محرّما على الصغار لأنّه يضرّ بالصحة. وأتحفتني أختي الصغيرة بالمخدّة، بتوجيه من الوالدة طبعا. ورقدت بجانب الوالد تحت الشجرة ودار بيننا الحوار التالي:ـ
    الوالد:ـ كان مجيئك مفاجئا، فقد أخبرتني في خطابك الأخير أنّ إجازتك في سبتمبر القادم أي تبقى لها ستة أشهر خير إن شاء الله!!
    قلت:ـ كل خير يا والدي، و قبل الرد عليه فتحت الشنطة الصغيرة وأخرجت منها دفتر التوفير (كنت أعرف أفضل السبل لمخاطبته وإقناعه) حيث كان بدفتر البنك مبلغ لاباس به (حوالي ستمئة جنيه) ناولته الدفتر ولمّا فتحه ورأى المبلغ ضحك وقال ما شاء الله، ما دمت تستطيع توفير كلّ هذا المبلغ لماذا لا تتزوج؟؟ لازم ترجع من هنا وزوجتك في يدك. وهنا ظهرت الوالدة في باب الفرندة وقد سمعت الحوار الدائر بيننا طبعا.. (يا للنساء لا تفوتهنّ واردة ولا شاردة)
    وقالت معترضة:ـ ياراجل الولد مازال صغيرا على الزواج دعه يكوّن نفسه أولا ولن بفوته قطار الزواج.
    قال لها:ـ تعالي وانظري يا امرأة، إبنك ما شاء الله تبارك الله صار يمتلك دفترا بالبنك وبه ستمئة جنيه، ولن أدعه يعود من هنا إلا وزوجته في يده. وما عليه إلا أن يختار العروسة التي تناسبه ويرغب في الزواج منها وسوف أقوم أنا بإتمام عقد قرانه فورا.
    الوالدة:ـ بنت خالته موجودة (يعلم الله أنها بدر التمام ويمشي على رجلين) وما عليه إلا أن ينتظر قليلا حتى تمتحن الشهادة الثانوية ويتزوجها وتذهب معه للخرطوم. أنا خطبتها له من أمها قبل سنتين والعروسة موافقة..
    كانت هذه آخر كلمات أسمعها وداهمني النوم. ومن فرط تعبي صحوت من النوم بعد آذان العشاء بقليل وتوجهت مباشرة نحو التُكُل (المطبخ) حيث كانت الوالدة تعوس الفطير للعشاء باللبن الرائب والفطير (وجبتي المفضّلة منذ نعومة أظافري) وكان الوالد قد خرج للمسجد والأنس على الرمال تحت ضوء القمر حتى الساعة العاشرة ليلا كعادته.
    جلست بجانب الوالدة أقرمش الفطيرة الكنكروشة (والكنكروشة لمن لا يعرفها فطيرة تتركها أمهاتنا على الصاج لفترة أطول حتي تجفّ و يتركّز ملحها فتصبح أشبه بشرائح القمح والذرة و البطاطس التي يحبها أطفال هذا الزمان ويسمونها (Chips). جلست أقرمش كما كنت زمان الصغر، وفي جلستي هذه حكيت لأمي كلّ قصتي مع لؤلؤتي بالتفصيل. وأخبرتها أنني أريدهم للسفر معي لطلب يد العروسة. وكان عكس ما توقعت فرحت أمي لدرجة إطلاق زغرودة طويلة، ولكن بصوت خفيض. ثم قالت أنا كنت أريد لك بنت خالتك لكن وصفك لهذه البنية جعلني أحبّها بشدّة وكأنني أعرفها منذ ميلادها، وباركتها لي وهي تقبّل جبيني وتضمني إلى صدرها رغم العجين.
    قلت:ـ لكن ماذا ستقولين لخالتي بعد أن ربطت لسانك معها وخطبت لي ابنتها كوثر بلا مشورتي؟؟
    قالت:ـ وهل تظنني هبلة أم أنّك تظنّني هبلة؟؟
    قلت:ـ حاشاك يا والدة لكن هذا كلامك..
    قال :ـ كلامي ما هو بصحيح ولكنني خائفة من أن يكون عمّك قد وسوس لوالدك وخطب لك واحدة من بناته القاهرات الجاسرات.. (بري بري) أحمد الله أنّك قد وجدت عروستك بعيدا عنهنّ..
    بالمناسبة عروستك هذه أنا أعرف جدتها وخالاتها لكن أمّها ومنذ يوم عرسها لم أرها مرّة أخرى. وهم أناس (ماشاء الله تبارك الخلّاق) يتمتعون بحسن الخَلق والخُلُق.
    قلت:ـ أفهم من هذا أنّك موافقة وسوف تقنعين الوالد وتذهبا معي لخطبتها..
    قالت:ـ أيّ خطبة تعني يا ولدي قل نزوّجها لك، نعقد لك عليها ونرجع في نفس يومنا.
    قلت:ـ ياوالدة الزواج في الخرطوم يختلف عن هنا ويحتاج مالا كثيرا..
    قالت:ـ أيّ مال يا ولدي ما عليك إلا أن تسلمني أربعمائة جنيه من دفترك هذا وسآتيك بها تتبعها أمّها. (أقص شعيراتي ديل إن لم أفعلها)
    قلت:ـ لكن يا والدة البنت ما تزال تلميذة في المدرسة وتبقى لها شهران فقط وتمتحن الشهادة الثانوية وأنا لا أريد حرمانها من دراستها. فالشهادة ربما تنفعها.. أهلها مساكين وليس لديهم ولد كبير، ويمكنها أن تعمل معلّمة مثلا وتساعد أهلها.
    قالت:ـ وماذا رمى بك على هؤلاء المساكين؟؟ ألم تجد أخرى ظروفها أفضل؟؟
    قلت:ـ بل هم أغنياء بقناعتهم وحسن خُلُقهم وقلبي وعقلي هما الذان ساقاني إليها. وما عليك إلاّ أن تخبري الوالد وتقنعيه وتأخذي منه الموافقة، وسوف أقوم أنا بإتمام الباقي..
    قالت:ـ هيييي دااابك خربتو .. براااك كلّم أبوك..
    بينما أنا مستمتع بالجلوس وقرمشة الكنكروشة بجانب أمي و أجلس بجوارها على بنبر (مقعد صغير منسوج بالحبل) وهي تجلس على الككر (مقعد مكون من ثلاث خشبات) تقود القرقريبة (شريحة رقيقة لتحريك العجين ونشره على الصاج) يمينا ويسارا في مسار هلالي، و أنا قد رجعت بي كبسولة الزمن نيف وعشرين عاما. إذا بصوت والدي الجهور ينادي:ـ أين خالد يابنت؟؟ يبدو أن أختي الصغيرة قد أخبرته بمكاني. فصاح نفس الصيحة التي كانت:ـ ياولد مالك منحشر في المطبخ مع الحريم؟؟ تعال مارق سلّم على عمك.. فخرجت وأنا أسمع أمي تقول بصوت منخفض (عمادقاسة أوعك من عمّك وبناتو الجاسرات ديل)
    خرجت و في نيتي أن أستخدم معهم نظرية المبادرة والهجوم خير وسيلة للدفاع. سلمت على عمي وكان في سلامه حرارة زائدة عن العادة، مما أكّد لي صدق إحساس أمي التي خبرتهم طويلا. جلسنا أنا وعمي على الكراسي بجانب سرير الوالد المفروش منذ آذان العصر، وبجانبه الكراسي والمنضدة الصغيرة والإبريق والصبّانة والمصلاة.. (كان زمن فيه الرجال رجالاً والنساء نساءاً) وما أن جلسنا حتى ظهرن من النفّاج (باب صغير بين بيوت الأهل والجيران) وهن نفيسة زوجة عمي وبناتها الأربع يتبعهن ابن عمي الصغير محمّد (حمودي) الذي جاء بعد البنات الأربع وكان محبوبا ومدلّلا من الكل، غير أبي الذي كان دائما ينهره عندما يراه مختلطا بالنساء. وكان ذلك يثير غضب نفيسة الخبيثة كما تسميها أمي. وبعد السلام على الجميع انفرد بي الكبار فكان لابدّ من الإقتحام فخاطبت عمي قائلا:ـ من حسن حظي إنك قد حضرت ياعمي لأن عندي موضوعا هاما جدا أريد إخباركما به أنت وأبي ولولا مجيئك لكنت جئتك وطلبت منك الحضور..
    قال:ـ قل ياولدي نحن نسمعك، خيرٌ إن شاء الله.
    قلت:ـ كل الخير يا عمي أصلا ـ أصلا أنا خطبت بنتا من جيراننا في الخرطوم لكنهم أصلا من هنا من البلد ووالدها زميلنا في الوزارة. وهو موافق بشرط موافقتكم طبعا. والدها إسمه محمد خير ولد عثمان ولد ابراهيم وهو رجل طيّب وعلى خُلق كريم. وأمّها أيضا من منطقتنا، من هنا. والوالدة تعرف جدتها وخالاتها. وقد أثنت عليهم كثيرا..
    قال عمي أنا أيضا عرفتهم أبوها سائق عندكم في الوزارة وليس زميلكم أليس كذلك؟؟
    قلت:ـ بلى ياعمي لكنه رجل يحترمه الجميع من الوزير و حتى الخفير ولايعيبه أنّه سائق..
    فقال عمّي : ـ ولماذا تترك بنات عمك حسب ونسب ومال وطين وتذهب بعيدا لتبحث عن بنات السائقين. أم أنّ بنات عمك الأربعة لم تعجبك فيهنّ واحدة؟؟ ما عليك إلا أن تختار من تريدها منهنّ وتأخذها بما عليها من ملابس، وزيتنا في بيتنا و لن نكلفك مليما واحدا.. (في هذه اللحظة لاحظت أنّ أمي تتأهب للتدخل فأومأت لها بالصبر فتراجعت لخط (الحرامليك..)
    قلت:ـ ياعمي والله بناتك من خيرة من رأيت من الشباب أدب وذوق وجمال وحشمة لكنني أراهن مثل أخواتي. فقد نشأن وترعرعنّ بيننا ومع إخواتنا في بيت واحد، لذلك لم أفكر يوما أن تكون واحدة منهنّ زوجة لي. والمثل يقول (البيخجل من بت عمو مابـ.......)ولولا نظرة من أبي لأكملتها بلاخجل..
    ردّ عمي:ـ هذا كلام فارغ وتهرب من الموضوع وحسب. كل الناس يتزوجون من بنات عمومتهم.
    هنا تدخل الوالد لصالحي على غير ماتوقعت، وقال:ـ خلاص ياحسن النصيب غلّاب يبدو أن لا فائده. ومادام الناس أخلاقهم طيبة ولا يعيبهم شيئ فلنقل خيراً. لكن السفر أنا والله لا أستطيعه، سوف أوكلك إنت ياحسن يا اخي، تسافر معه، وتعقد له وتعود بالسلامة إن شاء الله. وكان ذلك إرضاءا له..
    وتنفست الصعداء، فلم يكن الانتصار على هؤلاء الرجال وإقناعهم أمرا سهلا، لكنها دعوات أمي كانت معي. وخرج عمي وحرمه وبناته مكسوري الخاطر وقد والله أشفقت عليهم. ولولا تعلّقي الشديد بتلك اللؤلؤة البضّة، لرضخت لرغبتهم.
    هنأتني الوالدة بحرارة، إذ لم تكن تتوقع أن يمرّ الموضوع بهذه السهولة واليسر..
    ونمت الليلة ملء جفوني ، و حلمت بلؤلؤتي و حلم حياتي..

  4. #4
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية خالد البدوي
    تاريخ التسجيل
    10 2012
    المشاركات
    10

    Angry رد: شموع ودموع (قصة في حلقات)

    4
    وما أن أصبح الصبح خرجت لكول بوكس الحي أعافر التلفون العقيم طالبا الوزارة. ولحسن حسن حظي رفع السماعة عمنا محمد خير، ليخبرني أنّ الموظفين لم يحضروا بعد، و أنّ مواعيد العمل تبدأ في الساعة الثامنة وعليّ أن أتّصل فيما بعد.. ودارت بيننا محادثة حميمة .. :: ألوووووو عم محمد خير .. أنا خالد ، سلامات يا ابو النسب . // أوووه ولدنا حمدا لله على السلامة إن شاء الله تكون وجدت الأهل كلهم طيبين؟؟ :: الله يسلّمك يا عم محمد، الجميع بخير ، والحمد لله الأمور كلّها ربنا سهلها وسارت على ما يرام والأهل كلهم مبسوطين بخبر خطبتي، الوالد والوالدة وعمّنا حسن يعرفونكم تماما وقد رحبوا بالموضوع بشدّة، لكن عندهم طلب بسيط جدا يرجونه منك.. // غاليين والطلب رخيص.. إعتبر طلبهم أمراً، ومن غير ما أعرف الطلب أنا موافق.. :: أشكرك ياعمنا، الحقيقة هؤلاء الناس أناس عمليين، وفكرة السفر من أجل الخطوبة فقط لم يتقبلوها. وطلبوا أن يتم عقد القران مرةً واحدة بدلا من السفر مرتين.. // ماعندنا مانع لكن البنت ما بقي لها سوى شهرين وتمتحن الشهادة، ولا أظنك ترغب في حرمانها من الشهادة؟؟ :: لا لا يا عمنا سيكون عقد القران مع وقف التنفيذ ومراسم الزواج تتم فيما بعد.. // إن كان الأمر كذلك فلا مانع. ومتى تحضرون إن شاء الله؟؟ :: فوراً إن شاء الله بقطار الأربعاء القادم. والعقد سوف يكون يوم الجمعة القادم إن شاء الله في المسجد وينتهى الأمر، نسأل الله أن يتمّه على الخير.. // يا سلام يا سلام و هل تظنّ أنّ عمك هيّنا أم بخيلا؟؟ أنا لازم أكرم هؤلاء الناس. فقدرهم عندي كبير وقد والله شرّفني نسبهم. العقد إن شاء الكريم يكون يوم الجمعة في تمام الساعة الخامسة مساءا وأمام منزل العروسة، ويحضره كل الأهل، وكل الزملاء في الوزارة. وبعد العقد تكون الوليمة عشاءا وسوف أنحر عجلين إن شاء الله.. ولا تحمل همّاً كل التكاليف عليّ.. عمّك قادر بعون الله على إكرام ضيوفه.. :: وأنا جاهز أيضا يا عمنا والتكاليف علي العريس. ولدك أيضا قدر المهمّة. وأرجوك أن تذهب الآن وعلى الفور للمطبعة وتطبع كروت الدعوة لعقد القران والعشاء.. لنا زميل إسمه إبراهيم يعمل رئيسا للحسابات في مطبعة التمدن تذهب من فورك إليه وتعطيه الأسماء وعنوان البيت وموعد عقد القران وحفل العشاء وتطلب منه أن يسلّمك الكروت اليوم لأنّ الزمن ضيّق وسيقوم هو بعمل اللازم.. وسوف أتصل به الآن وأوصيه. رغم علمي أنّه لا يحتاج توصية.. // حسناً ياولدي ولا تحمل أيّ هم ، كله يتم بإذن الله. ربنا سوف يتمه على الخير إن شاء الله.. :: طيب ياعمّنا، سوف أتصل بك غدا صباحا وفي نفس الموعد و أرجو أن تكون قريبا من التلفون.. // مافي عوجي، (لا إشكال) و أرجو ألّا تزعج نفسك بأي شيئ .. :: حسنا يا عمّي ولا تنسى أن تذهب حالا للمطبعة. كما أرجو أن أن تكلّف إبراهيم بتوجيه الدعوة للعاملين بالمطبعة و أصحابها. (مع السلامة..) خرجت من الكولبوكس وأنا أتصبب عرقا، وهرعت نحو البيت أكاد أطير من فرط فرحي ثمّ استدركت أنني لم أدفع ثمن المحادثة (ثلاثة قروش) لعمّنا ود اب ريش وكيل الكول بوكس.. وعندما وصلت فكرت أن أتصل بزميلي في المطبعة وهو يسكن معنا في بيت العُزّاب أيضا ويعرف الحكاية.. وأعطيت عمّنا نمرة المطبعة ليطلبها لي من الكبانية بسرعة.. أمسك العم ود أب ريش بالسماعة ومنفلة التلفون كركركر و خاطب موظف الكبانية وأملى عليه نمرة التلفون، ثمّ قال له:ـ يا عبد القادر يا ولدي تديني الكول ده بي سرعة، لأنو معاي عريس ضائق، وما عنده زمن، شايلاه الهاشمية وماسكاه أم هلا هلا.. ما أظرف عمنا ود اب ريش وأطيبه وهو يؤدي خدماته السلكية لأهل الحي ويناديهم من على البعد بصوته الجهور وفي حالة بُعد المطلوب يستخدم بوقا كبيرا (فلان ود فلاااااااااااااااان كلّم التتلفووووووون) وما أن وضع الرجل السماعة حتى رنّ الجرس ورفعت السماعة لأجد صاحبي إبراهيم على الطرف الآخر.. // ألوووو معك مطبعة التمدّن يا أخي.. :: نعم يا ابراهيم معك خالد. أسمع بدون مقدمات ولا نقاش. أنا عقد قراني سوف يكون يوم الجمعة القادم إن شاء الله. وسوف نحضر للخرطوم يوم الخميس. وسوف يأتيك عمنا محمد خير بعد قليل لطباعة الكروت. أرجو أن يستلمها اليوم. وتعطيه أيضا مبلغ أربعمائة جنيه لحين وصولي. تأتي بها من السماء أو من باطن الأرض لا يهمّني ذلك. مع السلامة. وضعت السماعة، وكنت واثقا من أنّ أمري سيكون مقضيّا. وللمرة الثانية هرولت نحو البيت دون أن أدفع ثمن المكالمات. ورجعت من منتصف الطريق لأعطي عمنا ود اب ريش مبلغ الستة قروش، ولكنه حلف بالطلاق ألّا يأخذ مني مليما واحدا. ثمّ هرولت نحو منزلنا بجناحي الفرح حيث تلقتني أمي الحبيبة بزغرودة طويلة أمام باب الشارع وأخرى أطول منها عبر الحائط الفاصل بين بيتنا وبيت عمي إمعانا في ال... (يا للنساء حتى ولو كنّ أمهاتنا الحبيبات). وبعد دقائق معدودات حضر الوالد يعتلي سيّارة بوكس محمّلة بالخراف والخضروات، سبعة خراف وكمية من الخضار والزيوت والبصل والفحم، شيلة مما جميعه تبرع من الوالد لإقامة وليمة البلد. هذا بالإضافة لتذاكر السفر، فقد حجز لنا عربة سكة حديد درجة ثالثة كاملة لزوم السيرة من البلد للخرطوم.. كما أحضر معه إبن عمنا أحمد باشكاتب المجلس لكتابة الكروت يدويا بخط يده المنمّق.. وكان يوم الثلاثاء يوما مشهودا يوم حنتي في البلد. مع الحناء والضريرة والخرزة والحريرة، مع أنغام الطنبور. وعبق السنين قد أخرجته أمي من سحّارتها العتيقة. فتحت ذلك الصندوق ذا الخطوط المتلألئة العريضة، الذي يحوي مدخرات يوم العجب.. الخرزة والحريرة والحُق والحناء والضريرة والسوط العنج ومستلزمات السيرة. (لا تخافوا فنحن أناس قد عبرنا إدماء الظهور.. فقط نتبختر بالسوط الورير). وحذاري ثمّ حذاري أن يمثّل أحدكم بطلاً ويخلع الخوف. ففي هذه الحالة ننزع الرحمة من القلوب. أتركونا نتمتع بالسيرة لعجب الأمهات. ووصفهن لنا بما ليس فينا وفينا.. نجلس للحناء والسيجارة بين شفتينا، والسيرة بين شفتي عماتنا وخالاتنا تنكر وجودها رغم الدخان المتصاعد إلتواءا يرسم في الهواء خرائط الطريق الملتوي.. على كل حال لم تكن التواءاتي حادّة الزاوية بمقاييس الزمان. وقد أخذته عهدا على نفسي قبل أن يكون بيني وبين لؤلؤتي أن أقوّم الزوايا المنفرجة في خارطة طريقي.. وحتي يوم الحنّاء كانت كلمات العمات والخالات عبر السيرة الذاتية للعريس مستحقة. وكانت الخارطة المستقيمة الجديدة تنحني وتلتوي وتستقيم فقط بنشوة الفرح وخيال اللؤلؤة البضّة، حبيبة القلب والروح.. قضيت ليلة بين أهلي وأقراني بألف ليلة وليلة، ضوء الرتائن والبخور المتصاعد يرفع زغاريد العمات والخالات إلى علياء علا معها شجر البان الغضّ المتمايل (فدعا) مع نغمات الطنبور.. وأزيز كفوف الشباب المتطاير فرحا إلى السماء يحكي حكايات شهرزاد الألف وواحدة في ليلة واحدة بألف ليلة وليلة، فاقت في مخيلتي كل ليالي الزمان منذ أبونا آدم وحواءه في تلكمو الجنة التي أزالها خبث إبليس.. وصمودي وإرادتي كانا أكبر من إبليس.. لن يخدعنا اللعين أبدا مرة أخرى.. ونام إبليس اللعين بحسرته ونامت بناته تحت السرائر. وسهرنا نحن حتى الصباح.. وكان العشاء أدسم وأطعم مما يكون.. لم أذق طعما للطعام أبدا مثل عشاء تلك الوليمة.. وكنت أتخيّل أنّها توابل الفرح الذي كان يعمّ أحاسيسي قد تبّلت الطعام.. لكن الآخرين هكذا قالوها أيضا دون أن أسألهم. إلا أن يكون سمعي أيضا قد أمسى متبّلا بالفرح الكبير.. وكان الفاصل الأخير والجميع وقوفا بينا أنا فوق الأعناق، وسوطي الورير لم تعكّره دماء أحمق.. مضت الألف ليلة وليلة في لحظات ليتها تعود. ولم يلاق الأعلى قرينه الأسفل. وقبل موعد القطار والكل مشغول بالإعداد للسفر والزاد. توجهت نحو الكولبوكس الميمون واطمأننت على أنّ أموري كلّها قد سارت على مايرام. والسيرة بالقطار ما أحلاها.. الخير باسط كلّ البسط والحمد لله. ما تبقى من لحوم الوليمة بالإضافة للقراصة الممرّرة والمتمّرة والبيض والطعمية، كميات تكفي لزاد السيرة وتزيد. وقد رافقنا عدد كبير من الأهل والجيران. وفي وسط عربة القطار، جلست وسط العمّات والخالات مرتديا كامل جرتقي من خرز و أهلّة وميداليات ذهبية، وكلها هدايا من الأهل والأصدقاء ستكون رصيدا كبيرا أهدي إليه لؤلؤتي البضّة يتزيّن بها. واتخذت مقعدي بجانب النافذة ليتفرّج روّاد المحطة والمودّعون على عريس الموسم أحلى عريس والله.. جلست بجانبي عمتي الكبيرة وهي تقول:ـ // أسّع يا ولدي دحين نصل الخرتوم متين ؟؟؟ ::ـ قلت لها:ـ ساعة واحدة يا عمّة و نكون في الخرطوم.. // نان ياولدي نحن ركبنا القطر ولّلا ركبتنا الطيّارة ولّلا يعني دي ياها الطيارة!! أنا يا ولدي ركبت القطر قبل يلدوا أمّك القاعدي جنبك دي.. وأخرجت محفظتها الكبيرة المتدلية من رقبتها عبر تضاريس السنين إلى أسفل سافلين. وأمرت أمي أن تخلع الذهب من رقبتي وجبيني، ووضعته في المحفظة لحفظه من لصوص الطريق كما قالت. واختلط غناء الفتيات بضجيج من لعب الحرام برؤوسهم من الشباب. وأمرت العمة الحكيمة بفصل عربة الدرجة الثالثة لنصفين بعمل ستاره بالملاءات. نصف للرجال، ونصف للنساء والعريس. فقد كان الخضاب عندي أكثر سوادا منهنّ.. ونمت مرة أميل على أمي ومرة أضع راسي على حجر عمتي.. وتجاوزت كلّ محطات قطر الهمّ نائما رغم ضجيج البنات والدلوكة وصخب الشباب عبر الستائر.. وفتحت عينيّ في أبي حمد لتناول الزاد والشاي. وبعد محطة أبي حمد أذنت عمتي بفتح الستائر وذهابي بجانب الرفاق لنواصل الإحتفال حتى الصباح.. ولم يتوقف الغناء والصخب إلا في محطة عطبرة، عند الفجر، حيث أطلّت أنوار عاصمة الحديد والنار.. وفي عطبرة حضر عمّي من قمرته النوم وأخذني معه لتناول الشاي والبسكوت في السنطور.. وجلست معه حتى الصفارة الأولى للقطار إنذارا بالقيام، لكنه أصرّ على أن نتبادل الأمكنة. وكانت فرصة لمواصلة النوم حتى جاء الشباب وأيقظوني في محطة الخرطوم.. ونزل الجميع بعضٌ معنا لبيت أختي الكبرى حيث وجدناها وزوجها في استقبالنا في محطة الخرطوم، وقد أعدا بيتهما وبعض صوالين الجيران لاستقبالنا.. ومعظم الشباب فضّلوا بيتنا (العزّابي) والبعض تفرقوا على بيوت الأقارب لنلتقي صباح الجمعة الميمون.. أصبح الصبح وها انا قد صحوت معبّقا مخضّبا بعد أن أمضيت ليلة وسط الإخوات والعمات والخالات وقد طبقن الحناء لتصبح أكثر سوادا من حناء العروسة نفسها. وكما الزرع في الأرض البور نجحت الحناء وآتت أكلها سوادا.. و الدلكة وما أدراكما الدلكة مع الأيدي والأرجل المليئة بالحشائش السوداء وكانت الأيدي المليئة بالدلكة تكّدّب الشعر كالملود فاصبحت التربة خالية من الحشائش صالحة للزرع الأخضر الجديد.. وكان إصرارهن عنيد.. رغم أنّهنّ يعلمن أن العرس لن يكون كاملا وسنعقد فقط. قلنا (طيب و ده كلو لزومو شنو) قالن :ـ (المهم) .. قلنا (المهم شنو) قالن :ـ (المهم وبس) تغيظني هذه الكلمة يقلنّ المهم وبس بلا تعليل.. المهم في النهاية رضخنا لواقع الأمر أو بالأحرى هو الأمر الواقع (تذكرت والله بلبع التكاليف يرحمه الله). فما بين الأمر الواقع وواقع الأمر شتّان في علم التكاليف.. وتعنيان ما حدث فعلا وما كان يجب أن يكون. يا لهؤلاء النساء يضعننا أمام الأمر الواقع فنفعل ما لايجب أن يكون.. لكن في النهاية معهن حق ولا نستطيع الإستغناء عنهنّ.. شعرت بنفسي في الصباح خفبفا ونشطا أكاد أطير فأحسست بأهمية المهم..
    سلام قولاً من ربٍ رحيم


    خالد البدوي بابكر

    الخرطزم

  5. #5
    Status
    غير متصل

    الصورة الرمزية خالد البدوي
    تاريخ التسجيل
    10 2012
    المشاركات
    10

    رد: شموع ودموع (قصة في حلقات)


    5
    وفي التاسعة تماما جاء فطور العريس ولم يكن هذا في حسباننا ولافي عاداتنا لكن أختي الخرطومية كانت تعلم. سيارتان بوكس تحملان فطور العريس يصحبه عدد من النساء و عدد من زملائي العُزّاب.. وكان الاستقبال بالزغاريد.. وكميات من اللحوم والطعميات والمحدّقات والشعيريات والمكسّرات والحلويات.. كان إفطارا دسما في ظل الضُحى خارج المنزل أكل منه الغاشي والماشي.. وبعد الفطور إنفرد بي أحد زملائنا بالوزارة ويسكن معنا وسلّمني مبلغ ثلاثمائة جنيه جمعها الزملاء وهو مبلغ كبير يساوي مرتبي ست مرات تقريبا. كما سلّمني رسالة جاءتني بالبريد يبدو أنّها من الخارج. ووضعتها قي جيبي ريثما أودّع الضيوف.. وبعد الفطور والشاي خرجت النساء من منزل أختي وكلّ منهنّ تحمل لفافة مغلّفة بالسلوفان، هدية من العريس، كانت أختي قد جهزتها لهنّ من حرّ مال زوجها الحبّوب، وكانت ثوب لكل واحدة.. حاولت دفع قيمة الهدايا لأنّ ما تحملاه من ضيافة الوفد كان يكفي. لكنهما رفضا بإصرار.
    وبعد مغادرة الضيوف تذكرت الرسالة غريبة الشكل وأخرجتها من جيبي بعد أن دخلت المنزل وجلست بجانب عمتي (صاحبة المحفظة)، كانت رسالة مسجّلة من الأمارات العربية كما اتضح لي من الأختام والطوابع.. فتحتها بحرص وعمتي ترمقني بقعر عينها و هي ما زالت تأكل لوحدها.. يا اااااا لله إنّها أول رسالة تأتيني من صاحبيّ سليمان وبلبل (رسالة مشتركة) هل تذكرونهما؟؟ وقبل أن أبدأ قراءة الرسالة لاحظت أنّ بها محتويات أخرى. يالله مبلغ من المال وبالدولار، في حواله تصرف من البنك (خمسمائة دولار) من صاحبيّ سليمان وبلبل. وكانا قد علما بخبر زواجي من زميلنا الطاهر، ذاك الأعرابي الذي مازال يقبع في البنك.. وواصلت قراءة الرسالة.. وكان الخبر المهم جدا جدا جدا...... هو فعلا خبر يساوي الكثير. فصديقي الحميم سليمان قد وجد لي وظيفة محترمة في شركة من شركات بنك أبوظبي الوطني الذي يعمل به.. (رئيسا للحسابات في شركة عقارية تابعة للبنك) وبمرتب شهري ستة آلاف درهم مع السكن المجاني والسيّارة الفارهة.. وكان عليّ في خلال خمسة عشر يوما أن أعمل تأشيرة الخروج، وأستخرج رخصة القيادة وأحجز للسفر.. ولم تسعني الفرحة. فالتفتّ إلى عمتي وقبّلت شلوخها الأفقية الست دفعة واحدة.. فالتفتت إليّ وقالت بأسلوبها الساخر :ـ (السليم ده وفّروا راجيك سلّيم كتير تسلّم لامن تاباه) كان لا بدّ أن أقتحم كل العوائق وأوصل الخبر للؤلؤتي البضّة بنفسي.. قمت مسرعا دخلت الحمّام وتلبّست وخرجت ممتطياً صهوة التاكسي من شجرة ماحي بيك حيث منزل أختي إلي حيّ الصحافة حيث منزل العروسة.. ووجدت العم محمّد خير خارج المنزل ومعه الشباب من الحي ومن الوزارة بالإضافة لزملائي في بيت العزّاب وكلهم تحت الخدمة وقد نصبوا صيوانا كبيرا وذبحت الذبائح بليل، والطباخون يعملون بهمة. واستقبلني العم محمّد خير مبتسما وهو يقول:ـ يازول العريس مابيمرق براه كدي.. إنت الليلي فوقك الملايكة..
    قلت له:ـ جئتكم لسببين الأول لأرى كيف تسير الأمور. ولو محتاجين أي مساعدة فالشباب جاهزين.. السبب الثاني عندي خبر جدّ مفرح للعروسة ولا بدّ أن أقوله لها بنفسي والآن.. عندك مانع ياعمّنا..
    قال:ـ لا والله ياولدي ما عندي مانع لكن عليك بالصبر قليلاً، فقد بقيت ساعات وتصبح زوجتك.. صبرا يبلّ الآبرى ماعندك؟؟
    قلت:ـ لا و الله لا أستطيع الصبر ولا بدّ أن أقابلها في الحين ولوحدها..
    قال:ـ (وهو يقودني نحو الباب) هي ومعها رفبقاتها تجلس في تلك الغرفة (غرفة العمليات) حيث يتمّ تجهيزها، أن كنت تستطيع الدخول، فالباب مفتوح أمامك.. قالها وهو يتوقع أن أتراجع. ولكن هيهات هيهات.. دخلت متوجها نحو الغرفة ولحسن حظي وجدت أمها في ساحة المنزل.. ووسط إستغراب الحاضرات ناديتها.. كانت إمرأة من الطراز القديم جدا، لكنني وضعتها أمام الأمر الواقع وفجأة وجدتني أمامها أمدّ يدي للسلام عليها. تلخبطت المسكينة قليلا ثمّ تبلّمت وسلّمت عليّ ويدها تحت الثوب.. مسكينة جدا هذه المرأة.. آثرت أن أستخدم معها جرأة عمتي وسخريتها من الحياة والحياء.. فخاطبتها بجرأة شديدة..
    قلت لها:ـ ياحاجة عشة عندي غردا مهم بالحيل طالبو منك لازم تسويه لي هسّعتي..
    قالت:ـ قول ياولدي إن شاء الله خير قطعت قلبي..
    قلت:ـ كل خير يا خاله عندي خبر مفرح وأريد أن تكون عروستي أوّل من يسمعه مني عندك مانع؟؟
    قالت:ـ نان ماتصبر تقولو ليها بعدين في الكوشة بعدين.. أسّع صاحباتها قاعدات معاها..
    قلت :ـ لا لا ياحاجة مابقدر أصبر.. يعني شنو لو شفتها هسع؟؟ داير آكلها ولّلا يعني داير آكلها.. والله لو ماشفتها بقع لك وإندردق في الحوش ده.. والحريم يقولن عريس بتك مجنون.. عندها تجرأت المسكينة وأمسكت بيدي وقادتني نحو الغرفة وهي تقول :ـ هوي يابنّوت أمرقن لابره الولد ده جايي عنده كلام مهم جاي يقولو لي عروسو. ولما فرغت من كلامها كانت قد توسّطت بي الغرفة ورأيت العجب العجاب. البنات بعضهن يتمسح و إخريات يتسرّحنّ و متكشّفات بلا حدود.. و ساد جو من الفوضى والهلع وفي لحظات كانت الغرفة فارغة إلا مني والعروسة وأمها. نظرت لأمّها بعين حاااااارة فخرجت وهي تقول:ـ أترك الباب مفتوحا ولاتسدّه. لكنني أغلقت الباب وراءها بالضبّة والمفتاح.. ورجعت للؤلؤتي و قد غطّت جسدها بالكامل و أدلت الثوب على وجهها..
    قلت لها:ـ يابت ياماجدة أفتحي وجهك أنا عندي لك مفاجأة جميلة أريد أن تكوني أول من يعرفها..
    وفتحت وجهها و قالت:ـ إنت الليله ماطبيعي.. مالك جايي هايج كده؟؟؟
    قلت:ـ لا والله ما أنا بهائج لكنني فرح بك ياقدم السعد عليّ.. تخيلي في صباح هذا اليوم السعيد استلمت تأشيرة دخول للأمارات وعقد عمل بمرتب خيالي بالإضافة لبدل السكن والسيّارة و هذا هو العقد أنظريه.. والسبب الذي جعلني أقتحم عليك بهذه الطريقة، فقط لأنني لا أريد أن يعرف هذا الخبر أحد قبلك أنت.. والسفر سيكون بعد أسبوعين على الأكثر.. وسال الدمع على الخدود اللؤلؤية.. وغطّت وجهها مرّة أخرى.. فتحت وجهها وجففت الدموع بمنديل كانت قد أهدته لي ولم أستعمله إلا الآن ليتعطّر بالدموع التي لم أر في حياتي دموعا أجمل ولا أروع منها.
    قلت لها:ـ ما يبكيك يا حبيبه؟؟
    قالت:ـ يبكيني سفرك وفراقك.. (يا الله ما أسعدني)
    قلت لها:ـ أترك السفر وأمزّق التأشيرة فورا (وأمسكت بالورق وكأنني أريد تمزيقه) وقامت لتوقف جنوني وأمسكت بيدي.. فكانت فرصة سانحة لي لتذوق طعم الدموع.. وبعدها هرولت خارجا وتركتها تصفني بالجنون !!
    أكيد مجنون .. وانتو جنوني ياحلوين ..
    رجعت من توّي لشجرة ماحي بيك لأخبر أهلي خبر اغترابي وكنت أظنّهم سيفرحون لي.. وكانت أولهم عمتي الكبرى التي قالت لي.. ياولدي إنت الناقصك شنو لامن دار تغترب.. العرس وبيتم ما باقي غير القليل أبوك بيتمو ليك.. وابوك زاتو مابيرضى سفرك.. دحين هسع جريت كلّمت العروس قبالنا مالك؟؟ أنا من مرقت من هني عرفتك شايلّ لك خبرا موديه ليها أنا باقي عاجناك وخابزاك.. تلقاها هي الزاكاك علي السفر و الغربة.. دايري تجي راجعي سميني زي البرميل و مكشكشه دهب.. (و الله ياهو موكدي؟؟)
    قلت لها :ـ لا والله ياعمتي العروسة ليس لها أي دخل في هذا الكلام وهي ليست راضية عن سفري. لكنني أقنعتها بصعوبة شديدة وتركتها تبكي وجئت إليك لأبشرك بعدها.. وأنت تعرفين قدرك عندي. أستحلفك بالله الّا تخزليني.. فحبي لك يأتي بعد العروسة مباشرة (وقبّلت الشلوخ مرة أخرى)

    فقالت:ـ (روح يا أونطجي) ..
    ثمّ تدخلت الوالده وقالت:ـ والله أبوك لن يرضى بسفرك هذا.. وهو أصلا غير راض من عملك في الخرطوم وكان يريدك أن تجلس معه في الدكان.. أبوك كبر ياولدي وأنت ولده الكبير والمفروض إنّك تقعد في العقاب وها أنت تريد أن تبتعد أكثر..
    قلت:ـ طيب ياجماعة الخير، كان الأفضل من زمان نختصر المشوار ونترك الدراسة ونشتغل في الدكان!! وهنا تدخّلت عمتي وقالت:ـ بسسسس قراية شنو كمان ماكان تقرالك طب ولّلا هندسة.. مو ياهو الحساب دا؟؟ أبوك قروشو النار ما تاكلن غير الحق والتمور ما تقعد تحسبن.. (عجايب!!!)
    قلت:ـ خلاص يا جماعة فلننسى الموضوع مؤقتا ونتم عرسنا ثمّ بعد ذلك نرى ما يكون. وخرجت لأرى رأي الرجال، علّهم يفهمونني.. جلست في الصالون بجوار خالي أحمد الذي حضر من بورتسودان على التو لحضور عقد قراني ومعنا ابن عمي وزوج أختي الكبرى عبد الله.. وبعد أن استقبلني خالي بالأحضان، وتبادلنا التحايا والسؤال عن الأهل والأبناء، أخبرتهم خبر اغترابي فاندهشوا، وكان رأيهم مطابقا لرأي العمّة والوالدة.. ولكنني أقنعتهم بأنني لن أمكث أكثر من عامين أو ثلاث على الأكثر، لأبدأ حياتي هناك بعيدا عن البلد وأجمع بعض المال لتكوين بيتي من حرّ مالي ثمّ أعود. قال ابن عمي لكنك سوف تفقد الوظيفة الميري وحقوقك المعاشية. (أفكاره عقيمة هذا الرجل مع أنّه ليس كبيرا جدا) ضحك خالي وقال له ياأخي الراجل محاسب شاطر وممكن يرجع يشتغل في أي شركة أو بنك بأكثر من ضعف مرتب الميري بتاعكم ده. ووجدت سندا كبيرا من الخال العزيز الذي كان تاجرا كبيرا في مدينة الثغر وكان عنده قدرة كبيره على الإقناع.. وأقنع الوالدة (وهي دائما تحلف به ورأيه عندها مُنزل).. وحتى عمتي العنيدة أقنعها بصعوبة بالرغم من أنها لاتحبه وتصفه بالطغيان.. وفائدة إقناع عمّتي كبيرة جداً. فهي الوحيدة التي تستطيع إقناع الوالد. و بذلك ضمنت السفر ورضا الجميع عنّي. وها قد اقترب موعد عقد قراني.. وكان لابدّ من دخول الحمّام مرّة أخرى. والإستعداد للعقد والحفلة.. وبعدها أخذت خالي جانبا وقلت له:ـ طبعا حسب التقاليد المفروض أن تكون أنت وكيلي في العقد.. ولكن عمّي قد حضر معنا نيابة عن الوالد وأوكل له الوالد المهمة إرضاءا له (وحكيت له قصتي مع عمّي في البلد) فتفهّم الموضوع، وقال لي كرامةً مرقتك من الولية الشوم دي (يقصد زوجة عمي) أنا متنازل لعمّك.. وقد كان كما أمي لا يحب عمي ولا زوجته..
    سلام قولاً من ربٍ رحيم


    خالد البدوي بابكر

    الخرطزم

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •