4
وما أن أصبح الصبح خرجت لكول بوكس الحي أعافر التلفون العقيم طالبا الوزارة. ولحسن حسن حظي رفع السماعة عمنا محمد خير، ليخبرني أنّ الموظفين لم يحضروا بعد، و أنّ مواعيد العمل تبدأ في الساعة الثامنة وعليّ أن أتّصل فيما بعد.. ودارت بيننا محادثة حميمة .. :: ألوووووو عم محمد خير .. أنا خالد ، سلامات يا ابو النسب . // أوووه ولدنا حمدا لله على السلامة إن شاء الله تكون وجدت الأهل كلهم طيبين؟؟ :: الله يسلّمك يا عم محمد، الجميع بخير ، والحمد لله الأمور كلّها ربنا سهلها وسارت على ما يرام والأهل كلهم مبسوطين بخبر خطبتي، الوالد والوالدة وعمّنا حسن يعرفونكم تماما وقد رحبوا بالموضوع بشدّة، لكن عندهم طلب بسيط جدا يرجونه منك.. // غاليين والطلب رخيص.. إعتبر طلبهم أمراً، ومن غير ما أعرف الطلب أنا موافق.. :: أشكرك ياعمنا، الحقيقة هؤلاء الناس أناس عمليين، وفكرة السفر من أجل الخطوبة فقط لم يتقبلوها. وطلبوا أن يتم عقد القران مرةً واحدة بدلا من السفر مرتين.. // ماعندنا مانع لكن البنت ما بقي لها سوى شهرين وتمتحن الشهادة، ولا أظنك ترغب في حرمانها من الشهادة؟؟ :: لا لا يا عمنا سيكون عقد القران مع وقف التنفيذ ومراسم الزواج تتم فيما بعد.. // إن كان الأمر كذلك فلا مانع. ومتى تحضرون إن شاء الله؟؟ :: فوراً إن شاء الله بقطار الأربعاء القادم. والعقد سوف يكون يوم الجمعة القادم إن شاء الله في المسجد وينتهى الأمر، نسأل الله أن يتمّه على الخير.. // يا سلام يا سلام و هل تظنّ أنّ عمك هيّنا أم بخيلا؟؟ أنا لازم أكرم هؤلاء الناس. فقدرهم عندي كبير وقد والله شرّفني نسبهم. العقد إن شاء الكريم يكون يوم الجمعة في تمام الساعة الخامسة مساءا وأمام منزل العروسة، ويحضره كل الأهل، وكل الزملاء في الوزارة. وبعد العقد تكون الوليمة عشاءا وسوف أنحر عجلين إن شاء الله.. ولا تحمل همّاً كل التكاليف عليّ.. عمّك قادر بعون الله على إكرام ضيوفه.. :: وأنا جاهز أيضا يا عمنا والتكاليف علي العريس. ولدك أيضا قدر المهمّة. وأرجوك أن تذهب الآن وعلى الفور للمطبعة وتطبع كروت الدعوة لعقد القران والعشاء.. لنا زميل إسمه إبراهيم يعمل رئيسا للحسابات في مطبعة التمدن تذهب من فورك إليه وتعطيه الأسماء وعنوان البيت وموعد عقد القران وحفل العشاء وتطلب منه أن يسلّمك الكروت اليوم لأنّ الزمن ضيّق وسيقوم هو بعمل اللازم.. وسوف أتصل به الآن وأوصيه. رغم علمي أنّه لا يحتاج توصية.. // حسناً ياولدي ولا تحمل أيّ هم ، كله يتم بإذن الله. ربنا سوف يتمه على الخير إن شاء الله.. :: طيب ياعمّنا، سوف أتصل بك غدا صباحا وفي نفس الموعد و أرجو أن تكون قريبا من التلفون.. // مافي عوجي، (لا إشكال) و أرجو ألّا تزعج نفسك بأي شيئ .. :: حسنا يا عمّي ولا تنسى أن تذهب حالا للمطبعة. كما أرجو أن أن تكلّف إبراهيم بتوجيه الدعوة للعاملين بالمطبعة و أصحابها. (مع السلامة..) خرجت من الكولبوكس وأنا أتصبب عرقا، وهرعت نحو البيت أكاد أطير من فرط فرحي ثمّ استدركت أنني لم أدفع ثمن المحادثة (ثلاثة قروش) لعمّنا ود اب ريش وكيل الكول بوكس.. وعندما وصلت فكرت أن أتصل بزميلي في المطبعة وهو يسكن معنا في بيت العُزّاب أيضا ويعرف الحكاية.. وأعطيت عمّنا نمرة المطبعة ليطلبها لي من الكبانية بسرعة.. أمسك العم ود أب ريش بالسماعة ومنفلة التلفون كركركر و خاطب موظف الكبانية وأملى عليه نمرة التلفون، ثمّ قال له:ـ يا عبد القادر يا ولدي تديني الكول ده بي سرعة، لأنو معاي عريس ضائق، وما عنده زمن، شايلاه الهاشمية وماسكاه أم هلا هلا.. ما أظرف عمنا ود اب ريش وأطيبه وهو يؤدي خدماته السلكية لأهل الحي ويناديهم من على البعد بصوته الجهور وفي حالة بُعد المطلوب يستخدم بوقا كبيرا (فلان ود فلاااااااااااااااان كلّم التتلفووووووون) وما أن وضع الرجل السماعة حتى رنّ الجرس ورفعت السماعة لأجد صاحبي إبراهيم على الطرف الآخر.. // ألوووو معك مطبعة التمدّن يا أخي.. :: نعم يا ابراهيم معك خالد. أسمع بدون مقدمات ولا نقاش. أنا عقد قراني سوف يكون يوم الجمعة القادم إن شاء الله. وسوف نحضر للخرطوم يوم الخميس. وسوف يأتيك عمنا محمد خير بعد قليل لطباعة الكروت. أرجو أن يستلمها اليوم. وتعطيه أيضا مبلغ أربعمائة جنيه لحين وصولي. تأتي بها من السماء أو من باطن الأرض لا يهمّني ذلك. مع السلامة. وضعت السماعة، وكنت واثقا من أنّ أمري سيكون مقضيّا. وللمرة الثانية هرولت نحو البيت دون أن أدفع ثمن المكالمات. ورجعت من منتصف الطريق لأعطي عمنا ود اب ريش مبلغ الستة قروش، ولكنه حلف بالطلاق ألّا يأخذ مني مليما واحدا. ثمّ هرولت نحو منزلنا بجناحي الفرح حيث تلقتني أمي الحبيبة بزغرودة طويلة أمام باب الشارع وأخرى أطول منها عبر الحائط الفاصل بين بيتنا وبيت عمي إمعانا في ال... (يا للنساء حتى ولو كنّ أمهاتنا الحبيبات). وبعد دقائق معدودات حضر الوالد يعتلي سيّارة بوكس محمّلة بالخراف والخضروات، سبعة خراف وكمية من الخضار والزيوت والبصل والفحم، شيلة مما جميعه تبرع من الوالد لإقامة وليمة البلد. هذا بالإضافة لتذاكر السفر، فقد حجز لنا عربة سكة حديد درجة ثالثة كاملة لزوم السيرة من البلد للخرطوم.. كما أحضر معه إبن عمنا أحمد باشكاتب المجلس لكتابة الكروت يدويا بخط يده المنمّق.. وكان يوم الثلاثاء يوما مشهودا يوم حنتي في البلد. مع الحناء والضريرة والخرزة والحريرة، مع أنغام الطنبور. وعبق السنين قد أخرجته أمي من سحّارتها العتيقة. فتحت ذلك الصندوق ذا الخطوط المتلألئة العريضة، الذي يحوي مدخرات يوم العجب.. الخرزة والحريرة والحُق والحناء والضريرة والسوط العنج ومستلزمات السيرة. (لا تخافوا فنحن أناس قد عبرنا إدماء الظهور.. فقط نتبختر بالسوط الورير). وحذاري ثمّ حذاري أن يمثّل أحدكم بطلاً ويخلع الخوف. ففي هذه الحالة ننزع الرحمة من القلوب. أتركونا نتمتع بالسيرة لعجب الأمهات. ووصفهن لنا بما ليس فينا وفينا.. نجلس للحناء والسيجارة بين شفتينا، والسيرة بين شفتي عماتنا وخالاتنا تنكر وجودها رغم الدخان المتصاعد إلتواءا يرسم في الهواء خرائط الطريق الملتوي.. على كل حال لم تكن التواءاتي حادّة الزاوية بمقاييس الزمان. وقد أخذته عهدا على نفسي قبل أن يكون بيني وبين لؤلؤتي أن أقوّم الزوايا المنفرجة في خارطة طريقي.. وحتي يوم الحنّاء كانت كلمات العمات والخالات عبر السيرة الذاتية للعريس مستحقة. وكانت الخارطة المستقيمة الجديدة تنحني وتلتوي وتستقيم فقط بنشوة الفرح وخيال اللؤلؤة البضّة، حبيبة القلب والروح.. قضيت ليلة بين أهلي وأقراني بألف ليلة وليلة، ضوء الرتائن والبخور المتصاعد يرفع زغاريد العمات والخالات إلى علياء علا معها شجر البان الغضّ المتمايل (فدعا) مع نغمات الطنبور.. وأزيز كفوف الشباب المتطاير فرحا إلى السماء يحكي حكايات شهرزاد الألف وواحدة في ليلة واحدة بألف ليلة وليلة، فاقت في مخيلتي كل ليالي الزمان منذ أبونا آدم وحواءه في تلكمو الجنة التي أزالها خبث إبليس.. وصمودي وإرادتي كانا أكبر من إبليس.. لن يخدعنا اللعين أبدا مرة أخرى.. ونام إبليس اللعين بحسرته ونامت بناته تحت السرائر. وسهرنا نحن حتى الصباح.. وكان العشاء أدسم وأطعم مما يكون.. لم أذق طعما للطعام أبدا مثل عشاء تلك الوليمة.. وكنت أتخيّل أنّها توابل الفرح الذي كان يعمّ أحاسيسي قد تبّلت الطعام.. لكن الآخرين هكذا قالوها أيضا دون أن أسألهم. إلا أن يكون سمعي أيضا قد أمسى متبّلا بالفرح الكبير.. وكان الفاصل الأخير والجميع وقوفا بينا أنا فوق الأعناق، وسوطي الورير لم تعكّره دماء أحمق.. مضت الألف ليلة وليلة في لحظات ليتها تعود. ولم يلاق الأعلى قرينه الأسفل. وقبل موعد القطار والكل مشغول بالإعداد للسفر والزاد. توجهت نحو الكولبوكس الميمون واطمأننت على أنّ أموري كلّها قد سارت على مايرام. والسيرة بالقطار ما أحلاها.. الخير باسط كلّ البسط والحمد لله. ما تبقى من لحوم الوليمة بالإضافة للقراصة الممرّرة والمتمّرة والبيض والطعمية، كميات تكفي لزاد السيرة وتزيد. وقد رافقنا عدد كبير من الأهل والجيران. وفي وسط عربة القطار، جلست وسط العمّات والخالات مرتديا كامل جرتقي من خرز و أهلّة وميداليات ذهبية، وكلها هدايا من الأهل والأصدقاء ستكون رصيدا كبيرا أهدي إليه لؤلؤتي البضّة يتزيّن بها. واتخذت مقعدي بجانب النافذة ليتفرّج روّاد المحطة والمودّعون على عريس الموسم أحلى عريس والله.. جلست بجانبي عمتي الكبيرة وهي تقول:ـ // أسّع يا ولدي دحين نصل الخرتوم متين ؟؟؟ ::ـ قلت لها:ـ ساعة واحدة يا عمّة و نكون في الخرطوم.. // نان ياولدي نحن ركبنا القطر ولّلا ركبتنا الطيّارة ولّلا يعني دي ياها الطيارة!! أنا يا ولدي ركبت القطر قبل يلدوا أمّك القاعدي جنبك دي.. وأخرجت محفظتها الكبيرة المتدلية من رقبتها عبر تضاريس السنين إلى أسفل سافلين. وأمرت أمي أن تخلع الذهب من رقبتي وجبيني، ووضعته في المحفظة لحفظه من لصوص الطريق كما قالت. واختلط غناء الفتيات بضجيج من لعب الحرام برؤوسهم من الشباب. وأمرت العمة الحكيمة بفصل عربة الدرجة الثالثة لنصفين بعمل ستاره بالملاءات. نصف للرجال، ونصف للنساء والعريس. فقد كان الخضاب عندي أكثر سوادا منهنّ.. ونمت مرة أميل على أمي ومرة أضع راسي على حجر عمتي.. وتجاوزت كلّ محطات قطر الهمّ نائما رغم ضجيج البنات والدلوكة وصخب الشباب عبر الستائر.. وفتحت عينيّ في أبي حمد لتناول الزاد والشاي. وبعد محطة أبي حمد أذنت عمتي بفتح الستائر وذهابي بجانب الرفاق لنواصل الإحتفال حتى الصباح.. ولم يتوقف الغناء والصخب إلا في محطة عطبرة، عند الفجر، حيث أطلّت أنوار عاصمة الحديد والنار.. وفي عطبرة حضر عمّي من قمرته النوم وأخذني معه لتناول الشاي والبسكوت في السنطور.. وجلست معه حتى الصفارة الأولى للقطار إنذارا بالقيام، لكنه أصرّ على أن نتبادل الأمكنة. وكانت فرصة لمواصلة النوم حتى جاء الشباب وأيقظوني في محطة الخرطوم.. ونزل الجميع بعضٌ معنا لبيت أختي الكبرى حيث وجدناها وزوجها في استقبالنا في محطة الخرطوم، وقد أعدا بيتهما وبعض صوالين الجيران لاستقبالنا.. ومعظم الشباب فضّلوا بيتنا (العزّابي) والبعض تفرقوا على بيوت الأقارب لنلتقي صباح الجمعة الميمون.. أصبح الصبح وها انا قد صحوت معبّقا مخضّبا بعد أن أمضيت ليلة وسط الإخوات والعمات والخالات وقد طبقن الحناء لتصبح أكثر سوادا من حناء العروسة نفسها. وكما الزرع في الأرض البور نجحت الحناء وآتت أكلها سوادا.. و الدلكة وما أدراكما الدلكة مع الأيدي والأرجل المليئة بالحشائش السوداء وكانت الأيدي المليئة بالدلكة تكّدّب الشعر كالملود فاصبحت التربة خالية من الحشائش صالحة للزرع الأخضر الجديد.. وكان إصرارهن عنيد.. رغم أنّهنّ يعلمن أن العرس لن يكون كاملا وسنعقد فقط. قلنا (طيب و ده كلو لزومو شنو) قالن :ـ (المهم) .. قلنا (المهم شنو) قالن :ـ (المهم وبس) تغيظني هذه الكلمة يقلنّ المهم وبس بلا تعليل.. المهم في النهاية رضخنا لواقع الأمر أو بالأحرى هو الأمر الواقع (تذكرت والله بلبع التكاليف يرحمه الله). فما بين الأمر الواقع وواقع الأمر شتّان في علم التكاليف.. وتعنيان ما حدث فعلا وما كان يجب أن يكون. يا لهؤلاء النساء يضعننا أمام الأمر الواقع فنفعل ما لايجب أن يكون.. لكن في النهاية معهن حق ولا نستطيع الإستغناء عنهنّ.. شعرت بنفسي في الصباح خفبفا ونشطا أكاد أطير فأحسست بأهمية المهم..