لا أحترف فن الوأد أيها الكاتب القدير
ربما لأنني أرتكب جرائمي علناً وأصافح المعزين قبل أن أغسل الدم عن يديّ
لهذا اسمح لي بإبداء رأيي في درجة بياض الكفن..وعذراً سلفاً
.
.
.إنني الآن ضميـر مستـتـر
لا تـقـدير له
.
ضميرٌ مستتر لا تقدير له
تشبيه مُبهر
المشبه : إنسانٌ يقبع في عالمٍ خاص حد العزلة
ويتقن فن " الانطواء على الذات"
يحتضنُ ألمه
ويلتف على روحه
لفةً
بعد لفةٍ
بعد لفةٍ
حتى يكادُ يختفي!
المشبه به : " ضمير"
وهنا فليسمح لي القارئ بالإنحناء تواضعاً لهذه الروعة
في حياتنا نستخدم دلالات عدة لمواقف تشترك أحياناً في رابطِ واحد
* الضمير : قوة خفية تجلد من يؤويها كحد أدنى للعقاب والصحوة من حيث لا يرى أو يسمع
* الضمير : أنا وانت وهو وهي وهم وهن ....الخ
وهو هنا يرتبط بالقواعد النحوية التي نعرفها مثل :
الضمير المستتر – الضمير المنفصل – الضمير المتصل..الخ
* الضمير: عند المؤمنين بالأشياء الملموسة مكانه : العقل
.
.
فأي ضمير يشير إليه الكاتب؟!
لا يخفى على ذائقة المتلقي الفطن التفريق بين ما " يستخدمه" الكاتب وبين ما "يرمي " إليه
ولكل قارئ نظرته الخاصة
ومن نافذتي المتواضعة أرى أن الكاتب أجاد في المزج الحسي بين المقاصد الثلاثة
وجعل المتلقي في حيرة لذيذة وهنا سر الإبداع!
هو الآن ضمير حسي لأنه " يتعذب"
وضمير نحوي لأنه – رغم وجوده في المجتمع – إلا أنه " مختفٍ " عنهم وحبيبته هي السبب في هذه "العزلة "
التي استعار بدلاً منها لفظة " مستتر"
وهو – ربما – ضمير ملموس .. فرغم العذاب الذي يكتنفه إلا أنه مازال يحتكم إلى عقله
ويلجأ إلى "قراره العقلاني" بعد تفكير ومنطق ربما عبرت عنه كلمة " مستتر"
لأن القرارت التي يتخذها العقل عادةً ما تحتاج إلى "عزلة" مع النفس و"استتار" عنهم .
ولعل النهاية التي خُتمت بها الخاطرة تدعم شكي حيث يقول الكاتب:
نستشف من هذه الجملة شيئاً يشبه " القرار" الذي نتج عن " ضمير عقلي ملموس"فأنا لا أريد أن امـوت وأنا مكتـئـب
.
.
إضاءات معتمة :
1/ لماذا " إنني " وليست " إني" ؟
يستخدم النحويون الحرف " إنّ " للتوكيد
وزيادة النون الثانية هنا لزيادة التوكيد طبعاً
فماالشيئ الذي يريد الكاتب تأكيده ولمن؟
هو ربما يؤكد على الحالة التي يعيش فيها .. فالأمر عنده لا يقبل الشك أو التخمين أو التحليل
هو " وحيد" ولا شيئ غير ذلك!
ولمن يؤكد؟
لها وحدها .. فهي تعرف هذه الحالة التي يعيش فيها وإن لم تكن فهاهو الآن يخبرها
فأي عذر بقي لها حتى لا تأتي ؟
استشفيت هذا من قول الكاتب :
2/ لماذا كلمة " الآن"؟فـ تعالي
إن عمري المتعب ينسكب
كان يمكن الإكتفاء بهذه الصيغة التي لن تخل بموسيقي الخاطرة:
(أنني ضمير مستتر
لا تقدير له)
إذن فلمَ " الآن " ؟
للزمن وتحديد دلالة مهمة في إعطاء النص حقه من الإيحاء
وكلمة " الآن" تدل على الزمن الحاضر.. لا قبل ولا بعد .. ولو بلحظة!
ربما لم يكن كذلك قبل الآن..قد تكون "وحدته" و "عذابه" أقل مماهو عليه الآن!
وربما لن يكون بهذه الحالة فيما بعد .. فقد تؤنسه الأيام و تنسيه الأزمان .. يقول الشاعر:
مابين غمضة عينٍ وانتباهتها..يغير الله من حالٍ إلى حالِ
ولهذا فهو " الآن" و " الآن" بالذات
أكثر وحدة
وأكثر ألماً
وأكثر عذاباً
وأكثر اشتياقاً
وأكثر احتياجاً
يجب أن تأتي هي " الآن "
فالآن لا أنيس ولا نغم ولا لهو !
.
.
ولربما تساءلنا عن تحديد أوضح لزمن هذه الـ " الآن"
الآن في وقت السحر
حيث لا أنيس ولا سمر
يعاني الوحدة والحاجة وماهو أمرّ وأمرّ!
وهل تزداد الوحدة قسوة إلا في آخر الليل؟!!
وهل يزداد الشوق لهيباً إلا في آخر الليل؟!!
يدل على ذلك قول الكاتب:
.(وآخر ليلي المشنوق يشبه
وجه َ أوله)
.
3 / لماذا " لا تقدير له " ؟
أهو مجرد استعارة نحوية فحسب؟!
كلمة "تقدير" توحي بـ "الإحترام" و " إعطاء الشيء حقه"
وكان يمكن أن يطلب منها أشياء أثمن وأغلى :
كالحب و الحنان و الهيام..
لكنه في موقف "احتضار" لا يُحسد عليه!
فهل بعد هذا يتشرط؟
لا أقل من "التقدير" لميتٍ حي لا زال ينادي
وتقديره أن تلقي عليه نظرة أخيرة ..فللموت هيبة وللإحتضار مهابة
وجو "الإحتضار" لا يتلاءم مع مفردة أكثر من كلمة " تقدير"
فهل أعطت المخاطَبة – الحبيبة- حق "الكاتب" من التقدير؟
أكاد أنظر إلى آفاق هذه الكلمة وتزل بي قدمي قبل وصولها!
فرغم الوحدة .. هي لا تقدر ولا تكترث
ورغم أنه " عليٌ " و " مطلوب" من قبل الجميع كما ورد في البداية :
إلا أنها وحدها لا تقدّر!علـي ٌ لا علـي َّ ولا لـي َّ ودائمـا مطلـوب
وحتى " الضمير النحوي" الذي ليس له قلبٌ أو سمعٌ يحظى بـ " تقدير"
إلا " عليٌ " فهو في الوحدة والعذاب وبعد "احتضار" شهيد"!
.
.
.
عذراً إن تاهت أفكاري عند مفترق الطريقعلي حمود أبوطالب
فكتاباتك أغوار عميقة لا يًمكن أن تُسبر!
تقبل فائق إعجابي بقلمك.