بسم الله الرحمن الرحيم ^ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ^ قرآن كريم الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا فتحدى بأقصر سورة
من سورة مصاقع الخطباء من العرب العرباء فلم يجد به قديرا وأفحم من تصدى لمعارضته من فصحاء عدنان وبلغاء قحطان حتى حسبوا أنهم سحروا تسحيرا ثم بين للناس ما نزل
إليهم حسبما عن لهم من مصالحهم ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب تذكيرا فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هي رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق ليتجلى لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فهو في الدارين حميد وسعيد ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه يعش ذميما ويصلى سعيرا فيا واجب الوجود ويا فائض الجود ويا غاية كل
مقصود صلى عليه صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه وعلى من أعانه وقرر تبيانه تقريرا وأفض علينا من بركاتهم واسلك بنا مسالك كراماتهم وسلم عليهم وعلينا تسليما كثيرا . وبعد فإن أعظم العلوم مقدارا وأرفعها شرفا ومنارا علم التفسير الذي هو رئيس
العلوم الدينية ورأسها ومبنى قواعد الشرع وأساسها لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفاق في الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها ولطالما أحدث نفسي بأن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة ما
بلغني من عظماء الصحابة وعلماء التابعين ومن دونهم من السلف الصالحين وينطوي على نكت بارعة ولطائف رائعة استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين وأماثل المحققين ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزوة إلى الأئمة الثمانيةالمشهورين والشواذ المروية عن القراء المعتبرين إلا أن قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمم به عزمي على الشروع فيما أردته والإتيان بما قصدته ناويا أن أسميه بعد أن أتممه بأنوار التنزيل وأسرار التأويل فها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول .
سورة الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم وتسمى أم القرآن لأنها مفتتحه ومبدؤه فكأنها أصله ومنشؤه ولذلك تسمى أساسا .
أو لأنها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله سبحانه وتعالى والتعبد بأمره ونهيه وبيان
وعده ووعيده أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الطريق المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء وسورة الكنز والوافية والكافية لذلك وسورة الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسألة لاشتمالها عليها والصلاة لوجوب قراءتها أو استحبابها فيها والشافية والشفاء لقوله عليه الصلاة والسلام هي شفاء
من كل داء والسبع المثاني لأنها سبع آيات بالاتفاق إلا أن منهم من عد التسمية دون ^ أنعمت عليهم ^ ومنهم من عكس وتثنى في الصلاة أو الإنزال إن صح أنها نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة حين حولت القبلة وقد صح أنها مكية لقوله تعالى ^ ولقد آتيناك سبعا من المثاني ^ وهو مكي بالنص . ^ بسم الله الرحمن الرحيم ^ من الفاتحة ومن كل سورة وعليه قراء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده وسئل محمد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفتين كلام الله تعالى ولنا
أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم وقول أم سلمة رضي الله عنها قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها والإجماع على أن ما بين الدفتين
كلام الله سبحانه وتعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن .
حتى لم تكتب آمين والباء متعلقة بمحذوف تقديره بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما
يطابقه ويدل عليه أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه وتقديم المعمول ههنا أوقع كما في قوله ^ بسم الله مجراها ^ وقوله ^ إياك نعبد ^ لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل
في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر وقيل الباء للمصاحبة .
والمعنى متبركا باسم الله تعالى اقرأ وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد
ليعلموا كيف يتبرك باسمه ويحمد على نعمه ويسأل من فضله وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر كما كسرت لام الأمر ولام
الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال وبينت أوائلها على السكون وأدخل
عليها مبتدأ بها همزة الوصل لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمى كهدى لغة فيه قال والله أسماك سمى مباركا آثرك الله به إيثاركا والقلب بعيد غير مطرد واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمىوشعار له ومن السمة عند الكوفيين وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة علىما حذف صدره في كلامهم ومن لغاته سم وسم قال
بسم الذي في كل سورة سمه والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة ويختلف باختلاف الأمم والأعصار ويتعدد تارة ويتحد أخرى والمسمى لا يكون كذلك وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى ^ تبارك اسم ربك ^ و ^ سبح اسم ربك ^ المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائصيجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما وإن أريد به الصفة كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة
عنده إلى ما هو نفس المسمى وإلى ما هو غيره وإلى ما ليس هو ولا غيره وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه أو للفرق بين اليمين والتيمن .
ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضا عنها والله أصله إله فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل يا الله بالقطع إلا أنه
مختص بالمعبود بالحق والإله في الأصل لكل معبود ثم غلب على المعبود بالحق واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد ومنه تأله واستأله وقيل من أله إذا تحير
لأن العقول تتحير في معرفته أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد أو من وله إذا تحير وتخبط عقله وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه فقيل إله كإعاء وإشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر كحلفة من أبي رباح يشهدها لاهه الكبار
وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به ولأنه لا بد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول لا إله إلا الله توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلبعليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق
أجرى مجراه في أجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه
وتعالى وهو الله في السموات معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة
وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة وإدخال اللام عليه وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة وقيل مطلقا وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد
به صريح اليمين وقد جاء لضرورة الشعر ألا لا بارك الله في سهيل إذا ما الله بارك في الرجال
منقول
تفسير ابن كثير