^ ولهم عذاب عظيم ^ وعيد وبيان لما يستحقونه والعذاب كالنكال بناء ومعنى تقول عذب عن الشيء ونكل عنه إذا أمسك ومنه الماء العذب لأنه يقمع العطش ويردعه ولذلك سمي نقاخا وفراتا ثم اتسع فأطلق على كل ألم قادح وإن لم يكن نكالا أي عقابا يردع الجاني عن المعاودة فهو أعم منهما وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذب كالتقذية والتمريض والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكما أن الحقير دون الصغير فالعظيم فوق الكبير ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالإضافة إليه ومعنى التنكير في الآية أن على أبصارهم نوع غشاوة ليس مما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله . ^ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ^ لما افتتح سبحانه وتعالى بشرح حال الكتاب وساق لبيانه ذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله تعالى وواطأت فيه قلوبهم
ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ولم يلتفتوا لفتة رأسا ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للقسم وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله لأنهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعا
واستهزاء ولذلك طول في بيان خبثهم وجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بأفعالهم وسجل على عمههم وطغيانهم وضرب لهم الأمثال وأنزل فيهم ^ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ^ وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرين . والناس أصله أناس لقولهم إنسان وأنس وأناسي فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يجمع بينهما وقوله إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا شاذ وهو اسم جمع كرجال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع مأخوذ من أنس
لأنهم يستأنسون بأمثالهم أو آنس لأنهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشرا كما سمي الجن جنا لاجتنانهم واللام فيه للجنس ومن موصولة إذ لا عهد فكأنه قال ومن الناس ناس يقولون أو للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها ابن أبي وأصحابه ونظراؤه فإنهم من حيث إنهم صمموا على النفاق دخلوا في عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادات زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فإن الأجناس إنما تتنوع بزيادات يختلف فيها أبعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثاني .
واختصاص الإيمان بالله وباليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم اجتازوا الإيمان من جانبيه وأحاطوا بقطريه وإيذان بأنهم منافقون
فيما يظنون أنهم مخلصون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لأن القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله وباليوم الآخر إيمانا كلا إيمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وإن الجنة لا يدخلها غيرهم وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة وغيرها ويرون المؤمنين أنهم آمنوا مثل إيمانهم وبيان لتضاعف خبثهم وإفراطهم في كفرهم لأن ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن إيمانا فكيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم وفي تكرار الباء ادعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة والاستحكام .
والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ وللرأي والمذهب مجازا والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى مالا ينتهي أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنه آخر الأوقات المحدودة . ^ وما هم بمؤمنين ^ إنكار ما ادعوه ونفي ما انتحلوا إثباته وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه عكس تأكيدا أو مبالغة في التكذيب لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمانعنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به لأنه جوابه . والآية تدل على أن من ادعى الإيمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا لأن من تفوه بالشهادتين فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه لم يكن مؤمنا والخلاف مع الكرامية في الثاني فلا ينهض حجة عليهم . ^ يخادعون الله والذين آمنوا ^ الخدع أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه لتنزله عما هو فيه وعما هو بصدده من قولهم خدع الضب إذ توارى في جحره وضب
خادع وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثم خرج من باب آخر وأصله الإخفاء ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في العنق والمخادعة تكون بين اثنين وخداعهم مع الله ليس على ظاهره لأنه لا تخفى عليه خافية ولأنهم لم يقصدوا خديعته بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته كما قال تعالى ^ من يطع الرسول فقد أطاع الله ^ ^ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ^ وإما أن صورة صنيعهم مع الله تعالى من أظهار الإيمان واستبطان الكفر وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أخبث الكفار وأهل الدرك الأسفل من النار استدراجا وامتثال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الإسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين ويحتمل أن يراد ب يخادعون يخدعون لأنه بيان ليقول أو مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المخادعين ويحتمل أن يراد ب يخادعون يخدعون لأنه بيان ليقول أو استئناف
بذكر ما هو الغرض منه إلا أنه أخرج في زنة فاعل للمبالغة فإن الزنة لما كانت للمبالغة والفعل متى غولب فيه كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض ومبار استصحبت ذلك ويعضده قراءة من قرأ يخدعون وكان غرضهمفي ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم ما يطرق به من سواهم من الكفرة وأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الإكرام والإعطاء وأن يختلطوا بالمسلمين فيطلعوا على أسرارهم ويذيعوها إلى منابذيهم إلى غير ذلك من الأغراض والمقاصد . وما يخادعون إلا أنفسهم قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والمعنى أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها يحيق بهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالأماني الفارغة وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية . وقرأ الباقون وما يتخدعون لأن المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين وقرىء يخدعون من خدع و يخدعون بمعنى يختدعون و يخدعون و يخادعون على
البناء للمفعول ونصب أنفسهم بنزع الخافض والنفس ذات الشيء وحقيقته ثم قيل للروح لأن نفس الحي به وللقلب لأنه محل الروح أو متعلقة وللدم لأن قوامها به وللماء لفرط حاجتها إليه وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه لأنه ينبعث عنها أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم . ^ وما يشعرون ^ لا يحسون لذلك لتمادي غفلتهم جعل لحوق وبال الخداع
ورجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس والشعور الإحساس ومشاعر الإنسان حواسه وأصله الشعر ومنه الشعار . ^ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ^ المرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاص به ويوجب الخلل في أفعاله ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصي لأنها مانعة من نيل
الفضائل أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية والآية الكريمة تحتلهما فإن قلوبهم كانت متألمة تحرقا على ما فات عنهم من الرياسة وحسدا على ما يرون من ثبات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستعلاء شأنه يوما فيوما وزاد الله غمهم بما زاد في إعلاء أمره وإشادة ذكره ونفوسهم كانت موصوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم ونحوها فزاد الله سبحانه وتعالى ذلك بالطبع أو بازدياد التكاليف وتكرير الوحي وتضاعف النصر وكان إسناد الزيادة إلى الله تعالى من حيث أنه مسبب من فعله وإسنادها إلى السورة في قوله تعالى ^ فزادتهم رجسا ^ لكونها سببا . ويحتمل أن يراد بالمرض ما تداخل قلوبهم من الجبن والخور حين شاهدوا شوكة المسلمين وإمداد الله تعالى لهم بالملائكة وقذف الرعب في قلوبهم وبزيادته تضعيفه بما زاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة على الأعداء وتبسطا في البلاد .