أطفال شارع اليرموك Vs كازابلانكا.:
لا يزال شارع اليرموك
ينحدر صوب البحر
وذاكرتي التي رآت شوارعاً عديدةً
في هذا العالم لم ترى أجمل منه قط...
فمن أعلاه تشرق الشمس
وفي منتصفه يسكن القمر
وفي أسفله تحلق النوارس.
* * *
كانت خطانا الصغيرة تصور لنا
أن البحر بعيد وأن وحوش الخرافين
تسكن الأماكن البعيدة...لذا كنا كل مرة
نجبن عن السير نحو البحر...
وبدلاً كنا نتجه لأعلى الشارع ثم ننحرف
يميناً لتتسابق إلى أنوفنا الصغيرة رائحة
الاقمشة الجديدة
القادمة من "أمسوق أمداخلي"
* * *
قبل اذان المغرب كانت خطانا الصغيرة
المكبلة بنصائح أمهاتنا
تقودنا إلى شارعنا
لنتوسد دفئ رصيفه ومن على عرشنا
المكسر البلاط كنا نتبادل أرآنا الصغيرة
حول المارة..
والسيارات العابرة...
والإجازة الصيفية البعيدة..
وشباب الحارة الذين يأتون
كل مساء ليستحلوا رصيفنا
وليكافؤا وجودنا الجميل
بجملة واحدة:
يله يا ولد أمشوا من هنا!!!
* * *
كنا لا نبتعد عنهم كثيرا...
وإجتياز تلك الأمتار القليلة
التي تفصل بيننا وبينهم كانت
أمنية الحياة الأولى في قلوبنا...
أردنا أن نكون مثلهم
وأن نخاطب بعضنا البعض
باللغة الإنقليزية
وأن نلبس مثل قمصانهم الحرير
التي كانوا يشترونها من جدة
وأن نذهب مثلهم كل صباح
إلى ذلك المكان العظيم المسمى
بالثانوية العامة!!
* * *
مرت عدة سنوات..وذأت ليلة
جاء لزيارة شباب الحارة ضيف لهم
عرف عنه كثرة السفر وأخذ يحكيهم
عن مغامراته في كازابلانكا ونحن نسترق
السمع حتى تنبه لوجودنا شاب منهم فنهرنا
بشدة فركضنا ونحن نضحك للرصيف المقابل
وكان أن نسينا برائتنا على الرصيف الذي
شردنا منه!!
* * *
لم نكن نعلم اين تقع كازابلانكا ولكننا أدركنا حينها
اين موقعنا نحن من رصيف شارعنا...
كان رصيف شارعنا كـ"لولليتا" فاتنة ترفرف
بين الصبا والشباب...وكانت اناشيدنا الصبيانية
تغري تلك اللوليتا حتى يأتي المساء ثم تستنهض
أحلام جسدها لتهديها لشباب الحارة!!
* * *
في اليوم التالي
أتجهنا للبحر...
لنقترب...
من دائرة الأفق...
لنقترب...
من وحوش خرافيننا!!
حَمَام بابوري:
"بابوري بائع حمام في جيزان"
بابوري...كان يعلمنا الفرق
بين الحمام الذكر...
والحمام الغير ذلك...وكنا نشتري
منه حمامات بيضاء بلا غصون زيتون
لأنه في طفولتنا كانوا يتوعدون
بحرق نصف إسرائيل..
ثم يعود حمامنا الذي أسكناه
قلوبنا وفرشنا له سطوحنا...
يعود شوقاً إلى بابوري..فلقد ذاق
((المويا سُكر))
****************
ثم كبرنا ولم يكبر أبدا حمام
بابوري
كنا نشاهده ونحن نطل من شبابيك
فصولنا الإبتدائية
كان صوت الحمام أمتع كثيرا
من دروس الأناشيد
أجمل كثيراً من" زرع حصد"
وكان يرافقنا وقت إنصرافنا
من المدرسة عبر إزقة حارتنا
وكنا نشم معاً رائحة اللبان الشحري
وصابون الغسيل المنبعث
من البيوت.....
كان حمام بابوري يرافقنا حتى
أبواب بيوتنا وينقر على أبوابنا
وتفتح الأبواب أمهاتنا..
ثم ينصرف حَمام بابوري...يطير
خلف عمارة العمودي ويعود للمدرسة
السعودية ليرافق أطفالاً آخرين
إلى بيوتهم.
***************
ثم كبرنا ولم يكبر حمام بابوري
ذهبنا إلى المتوسطة وأتى معنا
وقالوا لنا حَمَام باللغة
الإنقليزية هو بجن أو دوف
فقلنا لهم: دوف بابوري
وكبرنا قليلاً وسمعنا
أغنية ياطيرة طيري ياحمامة
فزاد عشقنا لحمام بابوري
**************
ذهبنا إلى الثانوية
وذهب معنا حمام بابوري
كنا نقفز من جدار الثانوية
قد كان جدارا
وكنا نظن خلفه
عالم وردي التراب
كنا نأتي كل صباح من الباب
و((نفرك)) قبل إنتصاف النهار
لأنه كان لنا للحب
مزار
أقصاه شفة فتاة
وأوله جدار
وكان يرافقنا حمام بابوري
شاهدنا ونحن نكبر ونحب
وأحببنا مثلما أحببناه
وعرفنا لماذا هرب من أقفاصنا التي أعددناها له
أراد أن يحبنا وهو حر طليق
وأن يشاهدنا من الأعلى ونحن
نتأرجح بين سعادة وحزن
أراد أن يحتفظ بالقبس الذي تهل منه مشاعرنا ووجدانياتنا
وببصمة ارواحنا ليحلق بهم جميعاً فوق اسطح مباني
جيزان...
فلقد كان من البدء يعلم أننا سنحتاج ذلك.