ذكر الاستطراد
( واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم )
الاستطراد في اللغة مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب وذلك أن يفر من بين يديه يوهمه الانهزام ثم يعطف عليه على غرة منه وهو ضرب من المكيدة وفي الاصطلاح أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ولا بد من التصريح باسم المستطرد به بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر ثم ترجع إلى الأول وتقطع الكلام فيكون المستطرد به آخر كلامك وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص فإن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول وقطع الكلام بعد المستطرد به والأمران معدومان في المخلص فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام بل يستمر إلى ما يخلص إليه
وحد صاحب الإيضاح الاستطراد بحد أتى فيه بالغرض بعد ما بالغ في الإيجاز فإنه قال الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى متصل به ثم يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني ففي قوله متصل به جل القصد وعدم الاحتياج إلى الكلام الكثير
وذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري
وذكر غيره أن البحتري نقلها عن أبي تمام وقال ابن المعتز الاستطراد هو الخروج من معنى إلى معنى وفسره بأن قال هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الأخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحا أو هجوا أو وصفا وغالب وقوعه في الهجاء فمنه قوله تعالى في كتابه العزيز ( ألا بعدا لمدين كما بعدت
ثمود ) فذكر ثمود استطراد
وقيل إن أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال قول السموأل
( وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول )
فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو وحسن عوده إلى ما كان عليه من الافتخار بقوله
( يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول )
ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
( إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام )
( ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... فنجا برأس طمره ولجام )
فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحرث بن هشام والحرث هو أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ومات يوم اليرموك بالشام ومنه قول البحتري من قصيدة في وصف فرس
( كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل )
( ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل )
( ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول )
ومنه قول أحمد بن يحيى البلاذري يرثي أبا تمام
( أمسى حبيب رهن قبر موحش ... لم يدفع الأقدار عنه بكيد )
( لم ينجه لما تناهى عمره ... أدب ولم يسلم بقوة أيد )
( قد كنت أرجو أن تنالك رحمة ... لكن أخاف قرابة ابن حميد )
ما أحسن ما خرج من الرثاء إلى الهجو في حميد بن قحطبة والقرابة التي بينه وبين ابن حميد أنهما كانا طائيين ومنه قول الحسين بن علي القمي
( جاورت أجبالا كأن صخورها ... وجنات نجم ذي الحياء البارد )
( والشوك يفعل في ثيابي مثل ما ... فعل الهجاء بعرض عبد الواحد )
ومنه قول أبي محمد بن مكدم وهو غاية في هذا الباب
( وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه )
( قطعت فنومي عن جفوني مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه )
( بذي أولق فيه اعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه )
( إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش ونور جبينه )
فانظر إلى قوة الاستطراد من وصف حاله مع الليل إلى هجاء الثلاثة ومدح قرواش
ومنه
( إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به باس وإن كان من جرم )
أنظر ما أبلغ ما خرج من الوعظ إلى الهجو المؤلم في قبيلة جرم
ومثله
( وشادن بالدلال عاتبني ... واميتتي من تدلل العاتب )
( فكان ردي عليه من خجل ... أبرد من شعر خالد الكاتب )
ومنه قول ابن المعتز
( ولقد شربت مدامة كرخية ... مع ماجد طلق اليدين حميد )
( عليت بماء بارد فكأنما ... عليت ببرد قصيدة ابن سعيد )
ومثله قول بعضهم يصف خمرا طبخت حتى راقت وصفت
( لم يبق منها وقود الطابخين لها ... إلا كما أبقت الأنواء من داري )
أنظر ما أحلى استطراده من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب بألطف كناية
والغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو وهو كقول جرير يهجو أم الفرزدق
( لها برص بأسفل اسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا )
ومثله قوله
( وكأني أقرأ بحرف أبي عمرو ... على القوم سورة الأنعام )
( محنة تصفع ابن عمرو بن يحيى ... في دماغ الأعشى بنعل القطامي )
ولقد أردت أن أستطرد هنا إلى ذكر ما وقع لي وللمتأخرين من الاستطرادات الغريبة فلم أجد أبدع من بيت البديعية فاكتفيت عند قضاة الأدب بحسن آدابه فإنه أعدل شاهد في هذا الباب وحبست عنان القلم عن الاستطراد في وصفه علما أن في إنصاف علماء الأدب إذا وقفوا عليه ما يغني عن ذلك
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( كأن آناء ليلى في تطاولها ... تسويف كاذب آمالي بقربهم )
الذي يظهر لي أن الشيخ صفي الدين عبر على الاستطراد بتقديم أداة التشبيه في أول البيت وقد تقدم قول صاحب الإيضاح أن يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني وما خرج أحد من الاستطراد بطريق التشبيه إلا جعل أداة التشبيه مع المستطرد به في آخر الكلام كقول السري الرفاء
( لنا روضة بالدار صيغ لزهرها ... قلائد من حلي الندى وشنوف )
( يمر بنا فيها إذا ما تبسمت ... نسيم كعقل الخالدي ضعيف )
فأداة التشبيه جاءت هنا في الآخر مع المستطرد به كما تقرر ولم يقدم الناظم في أول البيت ما يتوصل به إلى آخره
اه
ومثل هذا الإيراد قول ابن جلنك الحلبي وهو أظرف ما رأيت في هذا الباب حكي أنه كتب رقعة إلى بعض الحكام وقيل إلى قاضي القضاه كمال الدين بن الزملكاني يسأله فيها شيئا فوقع له بخبز وأستحيي أن أقول إنه رطلان فتوجه ابن جلنك يوما إلى بستان يرتاض فيه فقيل إنه لقاضي القضاة المشار إليه فكتب على حائط البستان
( لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها )
( والبان تحسبها سنانيرا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها )
فاستطراده من وصف البستان وتشبيه البان التشبيه المخترع إلى هجو قاضي القضاة مرقص عند سماعه
وما شك أحد من أهل الأدب أن التشبيه غريب في اختراعه وقيل إن الشيخ بدر الدين بن مالك أملى عليهما كراسة في البديع وأنا بالأشواق إلى رؤيتها
ومن استطرادات أبي عبد الله محمد بن حجاج البغدادي في طريقه التي لم تنسج على منوالها غيره فإن الشيخ جمال الدين بن نباتة قال فيها في خطبة كتابه المسمى بتلطيف المزاج في شعر ابن حجاج فإني رأيت نتائج أفكار الشعراء ذرية بعضها من بعض وأمم أشعارهم تبعث جميعها في صعيد واحد من الأرض إلا أشعار الأريب الفريد أبي عبد الله الحسين بن حجاج فإنها أمة غريبة تبعث وحدها وذرية عجيبة تبلغ بإتقان اللهو اللعب رشدها لم يحط خاطر أحد بمثلها خبرا ولا استطاع على معارضة شهدها صبرا انتهى قول الشيخ جمال الدين
واستطراده الموعود بذكره هو قوله
( تفديك أمي وأبي ... وابني وإن كان صبي )
( يا من إليه حينما ... وجدته منقلبي )
( يا من مديح غيره ... عندي عزيز المطلب )
( لحية من يشناك في ... حال رضا أو غضب )
( من عين من يطلبها ... بالليل في استي تختبي )
( وأمه أم الشكوك ... في استها والريب )
( ذات حر أوسع من ... شارع باب اللعب )
( وشعرة غليظة ... ذات نبات أشيب )
( قد شاب منها بعضها ... وبعضها لم يشب )
( نتفت منها طاقة ... بشدة أو تعب )
( فما شككت أنها ... لحية ابن الحلبي )
ومنها في الاستطرادات الغريبة لما بلغه أن المهذب يعشق ابن أخيه وينكر ذلك ويعقد الأيمان عليه بسببه قوله
( جارية مثل شراع ... المضرب المطنب )
( صعدت من عليها ... بالليل فوق مرقب )
حتى رأيت ابن أخي ... بحضرة المهذب )
ومثله قوله من قصيدة
( حتى متى أفديك يا ستي ... بندف قطن استك دق إستي )
( متى أرى سرمك منهدما ... وخصيتي تنهز من تحتي )
( قالت بهذا الأير واستحقرت ... وكان قد نام على بختي )
( قلت نعم هذا على ما به ... قد ضرط البخت فما أنت )
( هذا إذا قام استوى طوله ... بطول ساقيك إذا نمت )
( فلو رأيتيه على بيضه ... مثل أبي منصور في الدست )
( خريت بالطول على عارضي ... صاحب ديوان أو بلت ) ( يا أيها الأستاذ يا من به ... يمسي كما أملته وقتي )
( خذ بيدي إني في محنة ... زلقت فيها في خرا تحتي )
وأما قول القاضي الفاضل في هذا الباب على طريقته الفاضلية فإنه عجيب وهو
( لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون )
( فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلكم تنوين )
ومثله قول مسلم بن الوليد
( سريت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر خالد )
وغاية الغايات في هذا الباب قول عبد المطلب جد النبي
( لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل )
( لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل )
أنظر إلى هذه البلاغة الهاشمية كيف جمعت بين حشمة الافتخار وتفخم الحماسة وبديع الافتنان وغريب الاستطراد ورقة الانسجام
انتهى الكلام على بيت الشيخ صفي الدين الحلي
وبيت العميان هو
( قد أفصح الضب تصديقا لبعثته ... إفصاح قس وسمع القوم لم يهم )
وهذا البيت على طريق الشيخ صفي الدين الحلي فإن ناظمه قصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني وبيت الشيخ عز الدين الموصلي هو
( يستطرد الشوق خيل الدمع سابقة ... فيفضل السحب فضل العرب للعجم )
الذي أقوله إن الشيخ عز الدين رحمه الله أحرز قصبات السبق بما استطرده هنا على الشيخ صفي الدين وعلى العميان مع التزامه بتسمية النوع المورى به من أنس الغزل ومراعاة جانب الرقة ونظم الاستطراد على الشرط المذكور وبيت بديعيتي هو
( واستطردوا خيل شوقي عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم )
وهذا البيت غريب ولا بد لأهل الأدب من تأهيل غريبه
انتهى