ذكر الطباق

( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
المطابقة يقال لها التطبيق والطباق والمطابقة في اللغة أن يضع البعير رجله في موضع يده فإنه فعل ذلك قيل طابق البعير
وقال الأصمعي المطابقة أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع
وقال الخليل بن أحمد يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حد واحد
انتهى
وليس بين تسمية اللغة وتسمية الاصطلاح مناسبة لأن المطابقة في الاصطلاح الجمع بين الضدين في كلام أو بيت شعر كالإيراد والإصدار والليل والنهار والبياض والسواد
وليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غيرهما أعني البياض والسواد فقد قال الرماني وغيره البياض والسواد ضدان بخلاف بقية الألوان لأن كلا منهما إذا قوي زاد بعدا من صاحبه
انتهى
وإذا ألحقوا بقية الألوان بالمطابقة فالتدبيج أحق منها بذلك فإنهم أوردوا في المطابقة من التدبيج قول ابن حيوس على جهة الكناية
( فافخر بعم عم جود يمينه ... وأب لأفعال الدنية آبي )
( ببياض عرض واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب )


وقد تقرر أن المطابقة الجمع بين الضدين عند غالب الناس سواء كانت من سمين أو من فعلين أو غير ذلك
قال الأخفش وقد سئل عنها أجد قوما يختلفون فيها فطائفة وهم الأكثر يرون أنها الشيء وضده وطائفة يزعمون أنها اشتراك المعنيين في لفظ واحد منهم قدامه بن جعفر الكاتب وأوردوا في ذلك قول زياد الأعجم
( ونبئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام )
فكاهل الأول اسم رجل والثاني العضو المعروف فاللفظ واحد والمعنيان مختلفان وهذا هو الجناس التام بعينه وقال الأخفش من قال إن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد فقد خالف الخليل والأصمعي فقيل أوكانا يعرفان ذلك فقال سبحان الله من أعلم منهما بطيبه وخبيثه وما أحسن ما أتى الأخفش في الجواب بالمطابقة
ومنهم من أدخل المقابلة فيها وليس بمليح إذ لم يبق للفرق بينهما محل
فإن السكاكي قال المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر وتقابل بالأضداد ثم إذا شرطت هنا شيئا شرطت هناك ضده والمطابقة هي الإتيان بلفظتين والواحدة ضد الأخرى وكأن المتكلم طابق الضد بالضد
ولقد شفى زكي الدين بن أبي الأصبع القلوب في ما قرره فإنه قال المطابقة ضربان ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة وضرب يأتي بألفاظ المجاز فما كان بلفظ الحقيقة سمي طباقا وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤا
فمثال التكافؤ وهو من إنشادات قدامة
( حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق )
فقوله حلو ومر يجري مجرى الاستعارة إذ ليس في الإنسان ولا في شمائله ما يذاق بحاسة الذوق
ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق وهو حسن
( وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج )

ومثله
( إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء )
( ذهب حينما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء )
وما أحلى قول القائل في هذا الباب
( إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائمه )
فالمطابقة بين اليقظان والنائم ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الأصبع
وأما المطابقة الحقيقية التي لم تأت بغير ألفاظ الحقيقة فأعظم الشواهد عليها قوله تعالى ( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيى ) وكقول النبي للأنصار رضي الله تعالى عنهم ( إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع ) فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة
ومن الشواهد الشعرية قول الحماسي
( تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما )
ولآخر
( لئن ساءني أن نلتني بإساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك )
ولآخر في وصف فرس وأجاد
( وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يوما عنانه بشمالي )
والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق قوله تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) فانظر إلى عظم هذه المطابقة وما فيها من الوجازة
ومن ذلك في الحديث قول النبي ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن ديناه لآخرته ومن الشبيبة للكبر ومن الحياة للممات فوالذي نفسي بيده ما بعد الحياة مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار )
انتهى ما قررته في المطابقة لغة واصطلاحا وما أوردته من الفرق بينهما وبين التكافؤ على رأي ابن أبي الأصبع

ولهم مطابقة السلب بعد الإيجاب وهي المطابقة التي لم يصرح فيها بإظهار الضدين كقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فالمطابقة حاصلة بين إيجاب العلم ونفيه لأنهما ضدان ومثله قول البحتري
( يقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم )
فالمطابقة باطنة ومعناها ظاهر فإن قوله لا أعلم كقوله جاهل والسابق إلى هذا امرؤ القيس بقوله
( جزعت ولم أجزع من البين مجزعا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا )
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الجزع ونفيه ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم
( خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا )
( رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا )
ومثله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه الفرح عند الموت فقيل له أتفرح بالموت فقال ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي عند مخلوق لا أرجوه
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الرجاء ونفيه
انتهى الكلام على مطابقة السلب بعد الإيجاب
ولهم إيهام المطابقة كما لهم إيهام التورية والشاهد على إيهام المطابقة قول الشاعر
( يبدي وشاحا أبيضا من سيبه ... والجو قد لبس الوشاح الأغبرا )
فإن الأغبر ليس بضد الأبيض وإنما يوهم بلفظه أنه ضده ومثله قول دعبل
( لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى )
فالضحك هنا من جهة المعنى ليس بضد البكاء لأنه كناية عن كثرة الشيب ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة
ولهم الملحق بالطباق وهو راجع إلى الضدين كقوله تعالى ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) طابق الأشداء بالرحماء لأن الرحمة فيها معنى اللين ومثله قوله

تعالى ( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا ) فالمطابقة بين الغرق ودخول النار فإن من دخل النار احترق والاحتراق ضد الغرق ومنه قول الحماسي
( لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا )
ففي قوله تتابع لي غنى معنى الكثرة وأما قول أبي الطيب
( لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم )
فمتفق عليه أنه من الطباق الفاسد فإن المجرم ليس بضد للمحب بوجه ما وليس للمحب ضد غير المبغض انتهى
وذكروا في آخر الباب طباق الترديد وهو أن ترد آخر الكلام المطابق على أوله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو من رد الإعجاز على الصدور ومنه قول الأعشى
( لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا )
وجل القصد في هذا الباب المطابقة في الحقيقة التي قررها ابن أبي الأصبع وتقدم ذلك في أول الباب مع الشواهد عليه ومثله قول بشار
( إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم )
ومن لطيف هذا الطباق ما أورده القاضي جلال الدين القزويني في إيضاحه على تلخيصه وهو قول القاضي الأرجاني
( ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى )
والذي أقوله إن المطابقة التي يأتي بها الناظم مجردة ليس تحتها كبير أمر ونهاية ذلك أن يطابق الضد بالضد وهو شيء سهل اللهم إلا أن تترشح بنوع من أنواع البديع يشاركه في البهجة والرونق كقوله تعالى ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ) ففي العطف بقوله تعالى ( وترزق من تشاء بغير حساب ) دلالة على أن من قدر على تلك

الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الرب سبحانه وتعالى فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية والعكس الذي لا يدرك لوجازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير قدرته ومثل ذلك قول امرئ القيس
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
فالمطابقة في الإقبال والإدبار ولكنه لما قال معا زادها تكميلا في غاية الكمال فإن المراد بها قرب الحركة في حالتي الإقبال والإدبار وحالتي الكر والفر فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الموقع ثم إنه استطرد بعد تمام المطابقة وكمال التكميل إلى التشبيه على سبيل الاستطراد البديعي ولم يكن قد ضرب لأنواع البديع في بيوت العرب وتد ولا امتد له سبب
وقد اشتمل بيت امرئ القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد على طريقة فإن ابن المعتز قال هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه إلى معنى آخر وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي حيث قال
( برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان )
( كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني )
لعمري لقد رفع أبو الطيب قدر المطابقة وأزال حقارتها بمجاورة هذا النوع البديعي الذي عظم عند أهل الأدب قدرا ومثله قول الصاحب بن عباد في رثاء الوزير كثير بن أحمد
( يقولون قد أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل )
فقلت دعوني والعلا نبكه معا ... فمثل كثير في الأنام قليل )
وأبو تمام كساها ديباجة المجانسة بقوله
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب )
وما أحلى قول الأرجاني من قصيدة
( تعلق بين الهجر والوصل مهجتي ... فلا أربي في الحب أقضي ولا نحبي )

فشد أزر المطابقة ببديع اللف والنشر وأهلها بغريب هذا المعنى بعدما سال رقة وعلق بخاطري من هذه القصيدة
( فلا تتعجب أنني عشت بعدهم ... فإنهم روحي وقد سكنوا قلبي )
ومنها
( وحرف تجوب القاع والوهد والربا ... كحرف مديم الجر والرفع والنصب )
نجائب يقدحن الحصى كل ليلة ... كأن بأيديها مصابيح للركب )
ومن المطابقة باللف والنشر أيضا قول شيخ شيوخ حماة المحروسة
( إن قوما يلحون في حب ليلى ... لا يكادون يفقهون حديثا )
( سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وردوا خبيثا )
ومثله قوله يخاطب العاذل
( أراك بخيلا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني )
( ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني )
ومثله قوله
( يا وجوها زانت سناها فروع ... حالكات أغنتكم عن حلاكم )
( لي من حسنكم نهار وليل ... أنعم الله صبحكم ومساكم )
ومثله قوله من قصيدة
( توغل حرقتي أجرى دموعي ... فقل ما شئت في دخل وخرج )
ومنه قول أبي حفص المطوعي في الباب
( أو ما ترى نور الخلاف كأنه ... لما بدا للعين نور وفاق )
فالمطابقة هنا بزيادة التورية مع الاستعارة البديعة ويعجبني قوله بعد هذا البيت
( كأكف سنور ولكن نشره ... يسعى بفأر المسك في الآفاق )
وأما سحر البلاغة هنا فقول القاضي الفاضل
( دام صاحي وداده عمر الدهر ... جنينا لسكري النشوان )

أنظر أيها المتأمل ما أبدع ما أبرز المطابقة في حلل هاتين الاستعارتين الغريبتين وما ألطف ما أيد معنى المطابقة بقوله بعدها
( وبنات الصدور أوقع فيما ... زعم المجد من بنات الدنان )
فالفاضل أبرز هذه المطابقة في حلل الاستعارة ولكن من أين للمستعير صحو الوداد ونشوة السكر سبحان المانح ما هذه إلا مواهب ربانية
وأما الذين تقدم القول بالاقتداء برأيهم في هذا الفن فإنهم ما أبرزوها إلا في أشعار التورية فمن ذلك قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في موصول
( وناطقة بالنفخ عن روح ربها ... تعبر عما عندنا وتترجم )
( سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم )
فإنه جمع بين التورية والتضمين والمطابقة
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض في المطابقة بالتورية في قوله
( أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرا فأحيا ميت الأحياء )
ومثله قول الوداعي في قصيدة وهو في غاية الحسن
( يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البارد يا حار )
وما ألطف قول الشيخ شمس الدين الواسطي في دو بيت
( إن ضر مني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري )
( فالعاذل في هواي لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري )
ومثله قول سراج الدين الوراق
( وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد )
( فلو بدت لحسان الحضر فمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للبادي )

ومثله قول أبي الحسين الجزار
( أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي )
( أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول )
ومثله قول الوداعي في مطلع قصيد
( ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم )
ومثله قول مجير الدين بن تميم
( لما لبست لبعده ثوب الضنا ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت واقف مدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا )
وكتبت من هذا النوع إلى القاضي كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال بدمشق المحروسة
( كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير البحر من بذل النوال )
( أيجمل أن يقول الناس إني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي )
( وأصبح بينهم مثلا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال )
ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى
( إني إذا آنست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه )
( ودعوت ألفاظ الحبيب وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه )
ومثله قوله
( قصدت معاليك أرجو الندى ... وأشكو من العسر داء دفينا )
( فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا )
ومثله قوله
( حزني من مهفهف القدر أم ... أسهم اللحظ ما أسد وأرشق )
( كلما قلت يفتح الله بالوصل ... رماني من سحر عينيه يغلق )

ومثله قوله
( إن أساء الحبيب قامت بعذر ... وجنة منه فوقها شامات )
( يا لها وجنة أقابل منها ... حسنات تمحى بها سيئات )
ومثله قوله
( قام غلام الأمير يحسب في ... يوم طهور البنين طاووسا )
( فأنزل الحاضرون من شبق ... وعاد ذاك الطهور تنجيسا )
وما ألطف قوله من هذا النوع
( يا غائبين تعللنا لغيبتكم ... بطيب لهو ولا والله لم يطب )
( ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكاس في راحة والقلب في تعب )
ومثله قوله في براعة قصيد
( يوم صحو فاجعله لي يوم سكر ... )
وما أحلى ما قال بعده في الشطر الثاني
( فأدر كأسي رضاب وخمر ... )
منها ولم يخرج عما نحن فيه
( جفن عينيه فاتر مستحيي ... إنما خده المشعشع جمري )
ومثله قوله من قصيدة
( فريد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى )
وله في روضة من قصيدة
( مطابقة الأوصاف أما نسيمها ... فصح وأما ماؤها فتكسرا )
أنظر ما أحسن تصريحه بالنوع هنا في قوله مطابقة الأوصاف
ومثله قول الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي من قصيدة
( بأبي غني ملاحة أشكو له ... فقري فيصبح بالغنى يتطرب )
ومنها في هذا النوع
( غدا ينادمني وكأس حديثه ... أشهى إلي من العتيق وأطيب )

ومثله قوله
( في جفنه سيف مضاربه ... يا صاح أسبق لي من العذل )
( وبخده والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل )
ومثله قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( تجادلنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف )
( وعقبي ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف )
ومثله قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب وهو في غاية الظرف
( كم جار صرف الدهر في حكمه ... وضر بي من حيث بي يعتني )
( ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عريتني )
ومنه قول الشيخ صلاح الدين الصفدي وقد أهدى إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة تخفيفة
( أيا فاضلا تدنو الأفاضل نحوه ... وتشكر في جميع المناقب تصريفه )
( إذا كنت بالإحسان ثقلت كاهلي ... فلا عجب إن كنت تقبل تخفيفه )
ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي من قصيدة
( والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زي مأسور )
( قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكثير )
ومنه قول المعمار
( أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشفائي )
( فرحت من فرط وجدي ... أشكو إلى الحكماء )
( قالوا أصبت بعين ... فقلت من عظم دائي )
( إن كان هذا صوابا ... فتلك عين الخطاء )
وحسن هنا قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي
( وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا )
( يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا عدا بين الرياض تشعبا )

ومنه قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال )
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي
( سموا مني مهجتي سعيدا ... ولي شقاء به يزيد )
( إذا اجتمعنا يقول ضدي ... هذا شقي وذا سعيد )
وظريف قول جمال الدين عبد الله السوسي
( ورب أقطع يشدو ... ساروا وما ودعوني )
( ما أنصفوا أهل ودي ... واصلتهم قاطعوني )
وألطف منه قول الشيخ جلال الدين ابن الخطيب داريا
( يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه )
( لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثاقل منكم خففوه )
ومثله قوله
( تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي )
( فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي )
وظريف هنا قول الشيخ بدر الدين البشتكي وإن لم يكن فيه تورية فقد صرح باسم النوع من جنس الغزل
( وقالوا يا قبيح الوجه تهوي ... مليحا دونه السمر الرشاق )
( فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق )

ومن المطابقة بالتورية قول القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمه الله
( بدر إذا شمت فوق الخد عارضه ... يوما أرى الصبح بالظلماء مختلطا )
( وظن أن صوابا هجر عاشقه ... لما رأى منه شيبا باديا وخطا )
ومن العجيب في هذا النوع قول شيخنا العلامة شهاب الدين بن حجر فسح الله في أجله
( خليلي ولي العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا )
( فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا )
وما أحلى قوله فيه
( أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا )
( فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا )
ومثله قوله
( نأى رقيبي وحبيبي دنا ... وحسنه للطرف قد أدهشا )
( آنسني المحبوب يوم اللقا ... لكن رقيبي فيه ما أوحشا )
وما أظرف قوله فيه
( أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي )
( قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع )
أنظر كيف جمع بين قصر الوزن وعدم الحشو وصحة التركيب والمطابقة بالتورية وتسمية النوع من جنس الغزل ومثله قوله
( قال حبي أكتم الهوى ... خوف لاح وواشيه )
( كيف أسطيع كتمه ... وسقامي علانيه )
وأنشدني من لفظه لنفسه ابن مكانس وقد أوقفته في الشرح على هذا النوع فقال
( يا سادتي والعشق لم يبق لي ... من بعدكم روحا ولا حسا )
( صبحني الهم لهجرانكم ... والضر لما بنتم مسا )

وله
( لثغرك طعم ونشر يلذ ... ونسقى به يا أخا البدر عشقا )
( فدعنا نمت ونعش في الهوى ... غراما وننعم ذوقا ونشقا )
ومثله قوله
( رب خذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالي )
( كلفوني بيع خيلي ... برخيص وبغال )
ونقلت من ديوان والده المقر الفخري
( زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر )
( يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر )
ونقلت أيضا من ديوانه
( لم أنس معشوقة زارت بجنح دجى ... فبت في مسك أنفاس وطيب سمر )
( حتى الصباح وعيناها تظن بأن ... هاروت حل عشاء فيهما وسحر )
ونقلت منه ما امتدح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
( يا ابن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا )
( أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إماما وما سواك مجاز )
وقوله
( علقتها معشوقة خالها ... إن عمها بالحسن قد خصصا )
( يا وصلها الغالي ويا هجرها ... لله ما أغلى وما أرخصا )
وقلت في هذا المعنى من قصيدة
( وكيف أكتم حبا في هواه ولي ... من أحمر الدمع فوق الخد تشهير )
( ونار خديه قلبي أرخصت وغلت ... لما غدت ولها في القلب تسعير )
( وقال أغمدت سيف اللحظ عنك فكيف ... الحال قلت له والله مشهور )

وقلت من قصيدة وصرحت باسم النوع
( طابقت رقة حالي بالجفا عبثا ... فما طباقك إلا رقة وجفا )
وقلت من قصيدة
( شرفونا بمدمع العين عجبا ... ليتهم عند موتنا قبلونا )
وقلت بعده
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
حتى تخلصت إلى مدح أمين الدين من غزل هذه القصيدة ولم أخرج عما نحن فيه من المطابقة
ومن غريب ما وقع لي في هذا النوع قولي من قصيدة
( بدر منير قسا برؤيته ... لكن يرى عند خده شفقه )
وقلت من قصيدة
( لي في حماكم أهيف من عامر ... وخراب بيت تصبر بالعامري )
( سلطان حسن ظاهر لما بدا ... جال الهوى في باطني بالظاهري )
( وضفرت شعرك إذ ظفرت بمهجتي ... يفديك محلول العرا من ظافر )
( وحميت برد الثغر إذ طابقته ... في ضمن تورية بجفن فاتر )
أنظر ما أحلى قولي في ضمن تورية والمراد المطابقة بالتورية
وقلت مطابقا والتورية ثلاثية
( بمر هجرك عجبا قد قضيت لنا ... وشاهد الحسن بالإحسان حلاك )
وكتبت إلى بعض المخاديم بحماة المحروسة حرسها الله تعالى أطلب منثورا أبيض فماطلني مدة والمنثور الأبيض عزيز بحماة
( زهر الوعود ذوي من طول مطلكم ... لأنه من نداكم غير ممطور )
( والعبد قد جهز المنظوم ممتدحا ... فطابقوه إذا وافى بمنثور )
وقلت
( هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
( قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم سود وا )
وقد طال الشرح ولكن هذا الطول تنشرح له الصدور وتعلو به همة الطالب ولم يرض بعدها بالرخيص من هذا الفن ويتأيد إن الذين اقتديت برأيهم ومشيت على سننهم لم يرضوا بالمطابقة المجردة ولم ينظموها إلا في سلك التورية وقد أوردت لهم هنا من ذلك ما شنف الأسماع ورقص عند السماع والكمال لله فإن الشيخ صفي الدين لم يأت بالمطابقة إلا مجردة وبيته
( قد طال ليلي وأجفاني به قصرت ... عن الرقاد فلم أصبح ولم أنم )
وبيت العميان مثله لكنه عامر بالركة والعقادة وهو
( واسهر إذا نام سار وامض حيث ونى ... واسمح إذا شح نفسا وأسر إن يقم )
وبيت عز الدين
( أبكي فيضحك عن در مطابقة ... حتى تشابه منثور بمنتظم )
لعمري إن بيت صفي الدين وبيت العميان يتنزلان عند هذا البيت العامر بالمحاسن منزلة الأطلال البالية فإن الشيخ عز الدين جمع فيه بين تسمية النوع من جنس الغزل وبين غرابة المعنى وحسن الانسجام ورقة النسيب وبديع اللف والنشر ولم يأت كل منهما إلا بمجرد المطابقة
وأما قول العميان في آخر بيتهم وأسر إن يقم فهذا اللفظ من بقية ما سقط من حجارة البيت
وبيت بديعتي هو
( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
فالمطابقة والتورية وتسمية النوع البديعي اجتمعت هنا في قافية هذا البيت الذي علا بطباقه وتفيأ أهل البديع بظل رواقه