وغاير المتنبي ذلك وقال
( حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم )
والمغايرة هنا مليحة لكن المعنى مأخوذ من قول أبي تمام السيف أصدق إنباء من الكتب والمعنى في قول أبي تمام أبلغ فإن ابن أبي الأصبع قال لم يرض أبو تمام أن يقول السيف أصدق إنباء من القلم حتى قال من الكتب التي لا تكتب إلا بالأقلام والدواة والقرطاس والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان فالحظ الفرق بينه وبين كلام المتنبي
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
وقد عن لي هنا أن أرفع للمتأخرين في التقديم رأيه ليعلم المنكر الفرق بين البداية والنهاية فإن الشيخ جمال الدين أظهر في المغايرة بين السيف والقلم ما صدق به قول القائل
( وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل )
من ذلك قوله في رسالة المفاخرة بينهما والمغايرة في مدح كل واحد منهما وذمه فبرز القلم بإفصاحه ونشط لارتياحه ورقي من الأنامل على أعواده وقام خطيبا بمحاسنه في حلة مداده والتفت إلى السيف فقال ( بسم الله الرحمن الرحيم ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم وخط به ما قدر وقسم و الذي قال ( جف القلم بما هو كائن ) وعلى آله وصحبه ذوي المجد المبين وكل مجد بائن صلاة واضحة السطور فائحة من أدراج الصدور ما نقلت صحف البحار غواديها وكتبت أقلام النور على مهارق الدياجي حكمة باريها أما بعد
فإن القلم منار الدين والدنيا ونظام الشرف والعليا ومجاديح سحب الخير إذا احتاجت الهمم إلى السقيا ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيا وسفير الملك المحجب وعذيق الملك المرجب وزمام أموره السائرة وقادمة أجنحته الطائرة
ومطلق أرزاق عفاته المتواترة وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل وسنة نبيه التي تهذب الخواطر الخواطل فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة وحسبه ما جرى على يده الكريمة من منه وفي مراضي الدول عونة للشائدين ويعين الله في ليالي النفس تقلب وجهه في الساجدين إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها وإن رقمت برود البيان فإنما هو جلالها وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هو أمانها ومآلها وإذا انقسمت أمور الممالك فإنما هو عصمتها وثمالها وإن اجتمعت رعايا الصنائع فإنما هو إمامها المتلفع بسواده وإن زخرت بحار الأفكار فإنما هو المستخرج دررها من ظلمات مداده وإن وعد أوفى بجنب النفع وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النقع
هذا وهو لسان الملوك المخاطب ورسيلها لأبكار الفتوح والخاطب والمنفق في تعمير دولها ومحصول أنفاسه والمتحمل أمورها الشاقة على عينه ورأسه والمتيقظ لجهاد أعدائها والسيف في جفنه نائم والمجهز لبأسها وكرمها جيشي الحروب والمكارم والجاري بما أمر الله من العد والإحسان والمسود الناصر فكأنما هو لعين الدهر إنسان طالما ذب عن حرمها فشد الله أزره ورفع ذكره وقام في المحامات عن دينها أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره وقاتل على البعد والصوارم في القرب وأوتي من معجزات النبوة نوعا من النصر بالرعب وبعث جحافل السطور فالقسي دالات والرماح ألفات واللامات لامات والهمزات كواسر الطير التي تتبع الجحافل والأتربة عجاجها المحمر من دم الكلى والمفاصل فهو صاحب فضيلتي العلم والعلم وساحب ذيلي الفخار في الحرب والسلم لا يعاديه إلا من سفه نفسه ولبس لبسه وطبع على قلبه وفل الجدال من غربه وخرج في وزن المعارضة عن ضربه
وكيف يعادى من إذا كرع في نقسه قيل ( إنا أعطيناك الكوثر ) وإذا ذكر شانئه السيف قيل ( إن
شانئك هو الأبتر ) أقول قولي هذا وأستغفر الله من الشرف وخيلائه والفخار وكبريائه وأتوكل على الله فيما حكم وأسأله التدبير فيما جرى به من القلم ثم أكتفي بما ذكره من أدواته وجلس على كرسي دواته متمثلا بقول القائل
( قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
( وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السيول وصولة الآساد )
فعند ذلك نهض السيف قائما عجلا وتلمظ لسانه للقول مرتجلا وقال ( بسم الله الرحمن الرحيم وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وشيد مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف وأجناهم من ورق حديدها الأخضر ثمار نعيمها الدانية القطوف و هازم الألوف وعلى آله وصحبه الذين طالما محوا بريق بريق الصوارم سطور الصفوف صلاة عاطرة في الأنوف حالية بها الأسماع كالشنوف وسلم
أما بعد فإن السيف زند الحق الوري وزنده القوي وحده الفارق بين الرشيد والغوي والنجم الهادي إلى العز وسبيله والثغر الباسم عن تباشير فلوله به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء وجلى شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء وأجرى سيوفه بالأباطح فأما الحق فمكث والباطل فذهب جفاء وحملته اليد الشريفة النبوية وخصته على الأقلام بهذه المزية وأوضحت به للحق منهاجا وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجا وهاجا وفتحت باب الدين بمصباحه حتى دخل فيه الناس أفواجا فهو ذو
الرأي الصائب وشهاب العزم الثاقب وسماء العز التي زينت من آثاره بزينة الكواكب والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج عند قطع الأجساد من بين الصلب والترائب لا تجحد آثاره ولا ينكر قراره إذا اشتبت في الدجى والنقع ناره يجمع بين الحالتين البأس والكرم ويصاغ في طوق الحليتين فهو إما طوق في نحور الأعداء وإما خلخال في عراقيب أهل النقم ويحسم به أهواء الفتن المضلة ويحذف بهمته الجازمة حروف العلة وإذا انحنى في سماء القتام بالضرب فقل يسألونك عن الأهلة فهو القوي الاستطاعة الطويل المعمر إذا قصف سواه في ساعة فما أولاه بطول الإحسان وما أجمل ذكره في أخبار المعمرين ومقاتل الفرسان كأن الغيث في غمده للطالب المنتجع وكأنه زناد يستضاء به إلا أن دفع الدماء شرره الملتمع كم قد مد فأدرك الطلاب ودعا النصر بلسانه المحمر من أثر الدماء فأجاب وتشعبت الدول لقائم نصره المنتظر وحازت أبكار الفتوح بحدة الذكر وغدت أيامها به ذات حجول معلومة وغرر وشدت به الظهور وحمدت علائقه في الأمور واتخذته الملوك حرزا لسلطانها وحصنا على أوطانها وقطانها وجردته على صروف الأقدار في شانها وندب فما أعيت عليه المصالح وباشر اللمم فهو على الحقيقة بين الهدى والضلال فرق واضح وأغاث في كل فصل فهو إما لغمده سعد الأخبية وإما لحامله سعد السعود وأما لضده سعد الذابح يجلس على رؤوس الأعداء قهرا ويشرح أنباء الشجاعة قائلا للقلم ( ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعض الحرب الضروس بنابه وقذفت شياطين القراع بشهبه ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه ومنها أن الله أنشأ برقه فكان للمارد مصرعا وللرائد مرتعا ( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ) كم اتخذ من جسد طرسا وكتب عليه حرفا لا ينسى فيه للألباب عبرة وللأذهان السابحة غمرة بعد غمرة
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من لفظ يجمح ورأي إلى الخصام يجنح
ولسان يحوجه اللدد إلى أن يخرج فيجرح وأتوكل عليه في صد الباطل وصرفه وأسأله الإعانة على كل باحث عن حتفه بظلفه ثم اختفى في بعض الخمائل وتمثل بقول القائل
( سل السيف عن أصل الفخار وفرعه ... فإني رأيت السيف أفصح مقولا )
فلما وعى القلم خطبته الطويلة الطائلة ونشطته الجليلة الجائلة وفهم كتابته وتلويحه وتعريضه بالذم وتصريحه وتعديله في الحديث وتجريحه استغاث باللفظ النصير واحتد وما أدراك ما حدة حده القصير وقام في دواته وقعد واضطرب على وجه القرطاس وارتعد وعدل إلى السب الصراح ورأى أنه إن سكت تكلم ولكن بأفواه الجراح فانحرف إلى السيف وقال أيها المعتز بطبعه المغتر بلمعه الناقض حبل الإنس بقطعه الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي ( يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) أتعرض بسبي وتتعرض لمكايد حربي ألست ذا الخدع البالغة والحرب خدعة والمنن النافعة ولا خير فيمن لا تبغي الأنام نفعه ألست المسود الأحق بقول القائل
( نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الجود والإقداما )
أتفاخرني وأنا للوصل وأنت للقطع وأنا للعطاء وأنت للمنع وأنا للصلح وأنت للضراب وأنا للعمارة وأنت للخراب وأنا المعمر وأنت المدمر وأنت المقلد وأنا صاحب التقليد وأنت العابث وأنا المجود ومن أولى من القلم بالتجويد فما أقبح شبهك وما أشنع يوما ترى فيه العيون وجهك أعلى مثلي يشق القول ويرفع
الصوت والصول وأنا ذو اللفظ المكين وأنت ممن دخل تحت قوله تعالى ( أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) فقد تعديت حدك وطلبت ما لم تبلغ به جهدك هيهات أنا المنتصب لمصالح الدول وأنت في الغمد طريح والمتعب في تمهيدها وأنت غافل مستريح والساهر وقد مهد لك في الغمد مضجع والجالس عن يمين الملك وأنت عن يساره فأي الحالتين أرفع والساعي في تدبير حال القوم والمغني لنفعهم العمر إذا كان نفعك يوما أو بعض يوم فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر أنيابك عند المكاشرة فما يحسن بالصامت محاورة المفصح والله يعلم المفسد من المصلح على أنه لا ينكر لمثلك التصدي ولا يستغرب منه على مثلي التعدي ما أنا أول من أطاع الباري وتجرأت عليه ومددت يد العدوان إليه أولست الذي قيل فيه
( شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
قد سلبت الرحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وجلبت القوة فكم هيجت سبة حمراء وأثرت دهماء وخمشت الوجوه وكيف لا وأنت كالظفر كونا وقطعت اللذات ولم لا وأنت كالصبح لونا أين بطشك من حلمي وجهلك من علمي وجسمك من جسمي
( شتان ما بين جسم صيغ من ذهب ... وذاك جسمي وجسم صيغ من بهق )
أين عينك الزرقاء من عيني الكحيلة ورؤيتك الشنعاء من رؤيتي الجميلة أين لون الشيب من لون الشباب وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب هذا وكم أكلت الأكباد غيظا وحميت الأضغان قيظا وشكوت الصدأ فسقيت ولكن بشواظ من نار وأخنت عليك الأيام حتى انتعل بأبعاضك الحمار ولولا تعرضك إلي لما وقعت في المقت ولولا إساءتك لما كنت تصقل في كل وقت فدع عنك هذا الفخر المديد وتأمل وصفي إذا ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) وافهم قول ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( بذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم )
فعند ذلك وثب السيف على قده وكاد الغضب يخرجه عن حده وقال أيها المتطاول على قصره والماشي على طريق غرره والمتعرض مني إلى الدمار والمتحرش بي فهو كما تقول العامة ذنبه قش ويحترس بالنار لقد شمرت عن ساقك حتى أغرقتك الغمرات وأتعبت نفسك فيما لا تدرك إلى أن أذهبها التعب حسرات أولست الذي طالما أرعش السيف للهيبة عطفك ونكس للخدمة رأسك وطرفك وأمر بعض رعيته وهو السكين فقطع قفاك وشق أنفك ورفعك في مهمات خاملة وحطك وجذبك للاستعمال وقطك فليت شعري كيف جسرت وعبست على مثلي وبسرت وأنت السوقة وأنا الملك وأنا الصادق وأنت المؤتفك وأنت لصون الحطام وأنا لصون الممالك وأنت لحفظ المزارع وأنا لحفظ المسالك وأنت للفلاحة وأنا للفلاح وأنت حاطب الليل من نفسه وأنا ساري الصباح وأنا الباصر وأنت الأرمد وأنا المخدوم الأبيض
وأنت الخادم الأسود وأقسم بمن صير في قبضتي أنواع اليمن المسخرة وجعل شخصك وشخصي كقوله تعالى ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) إنك عن بلوغ قدري لأذل رتبة وعن بري كفي لأخيب طلبة فإني لا أنكر قول بعض أربابك حيث قالوا
( أف لرزق الكتبه ... أف له ما أصعبه )
( يرتشف الرزق به ... من شق تلك القصبه )
( يا قلما يرفع في ... الطرس لوجهي ذنبه )
( ما أعرف المسكين إلا ... كاتبا ذا متربه )