ذكر التوشيع
( ووشع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم )
التوشيع مأخوذ من الوشيعة وهي الطريقة الواحدة في البرد المطلق فكأن الشاعر أهمل البيت إلا آخره فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن وهو عند أهل هذه الصناعة عبارة عن أن يتكلم المتكلم أو الشاعر باسم مثنى في حشو العجز يأتي بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى يكون الآخر منهما قافية بيته أو سجعة كلامه كأنهما تفسير له
وقد جاء من ذلك في السنة الشريفة ما لا يلحق بلاغته وهو قوله ( يشيب المرء وتشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل ومن أمثلة هذا الباب في النظم قول الشاعر
( أمسي وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد )
( قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد )
( وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد )
( لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد )
( كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان الذئب والأسد )
( لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد )
هذه الأبيات عامرة بالمحاسن في هذا الباب غير أن أهل النقد الصحيح ما سكتوا عن تقصيره في البيت الأول حيث قال فيه يرثي لي المشفقان الأهل والولد
فإن
شفقة الأهل والولد معروفة والمشفق إذا رثى لشكوى أهله أو الولد إذا رثى لشكوى والده كان ذلك تحصيل الحاصل والمراد هنا أن يقون رثى لي العدو ورق لي الصخر وأشباه ذلك
قال ابن أبي الأصبع وما بشعر قلته هنا من بأس
( بي محنتان ملام في هوى بهما ... يرثي لي القاسيان الحب والحجر )
( لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان الشوق والفكر )
رأيت في حاشية على هذين البيتين بخط رفيع رحم الله الشيخ لو قال الشوق والسهر كان أتم وأحسن وبيت الشيخ صفي الدين في هذا الباب غاية فإنه يقول في وصف النبي
( أمي خط أبان الله معجزه ... بطاعة الماضيين السيف والقلم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله
( ومن عطاياه روض وشعه يد ... تغني عن الأجودين البحر والديم )
الشيخ عز الدين أتى بالتوشيع على الوضع ولكنه شن الغارة على ابن الرومي وفك قواعد بيته وهو
( أبو سليمان إن جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر )
أخذ الأجودين والبحر ورادف المطر بالديم
وهذا ما يليق بأهل الأدب
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ووسع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم )
وأنا على مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع في قوله وما بشعر قلته هنا من بأس
انتهى