فمن قوله في هذا الباب الذي ليس لغيره فيه مدخل ما ألفته من تائيته وجعلته قصيدا غراميا ينتظم بها شمل الانسجام وإذا هب نسيمها العذري تنسمت العشاق منه أخبار الغرام وهو قوله
( نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي ... فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت )
( تذكرني العهد القديم لأنها ... حديثة عهد عن أهيل مودتي )
( فلي بين هاتيك الخيام ضنينة ... علي بجمعي سمحة بتشتتي )
( محجبة بين الأسنة والظبا ... إليها انثنت ألبابنا إذ تثنت )
( تتيح المنايا إذ تبيح لنا المنى ... وذاك رخيص منيتي بمنيتي )
( متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت ... وإن أقسمت لا تبرى السقم برت )
( وإن عرضت أطرق حياء وهيبة ... وإن أعرضت أشفق فلم أتلفت )
( وقد سخنت عيني عليها كأنها ... بها لم تكن يوما من الدهر قرت )
( فإنسانها ميت ودمعي غسله ... وأكفانه ما أبيض حزنا لفرقتي )
( خرجت بها عني إليها فلم أعد ... إلي ومثلي لا يقول برجعة )
( فوصلي قطعي واقترابي تباعدي ... وودي صدي وابتدائي نهايتي )
( وفيها تلاف الجسم بالسقم صحة ... له وتلاف النفس عين الفتوة )
( ولما تلاقينا عشاء وضمنا ... سواء سبيلي ذي طوى والثنية )
( وضنت وما منت علي بوقفة ... تعادل عندي بالمعرف وقفتي )
( عتبت فلم تعتب كأن لم يكن لقا ... وما كان إلا أن أشرت وأومت )
( وبانت فأما حسن صبري فخانني ... وأما جفوني بالبكاء فوفت )
( أغار عليها أن أهيم بحبها ... وأعرف مقداري فأنكر غيرتي )
وكنت بها صبا فلما تركت ما ... أريد أرادتني لها وأحبت )
( بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ... كمجنون ليلى أو كثير عزة )
( بدت فرأيت الحزم في نقض توبتي ... وقام بها عند النهى عذر محنتي )
( فموتي بها وجدا حياة هنيئة ... وإن لم أمت في الحب عشت بغصتي )
( تجمعت الأهواء فيها فلا ترى ... بها غير صب لا يرى غير صبوتي )
( وعندي عيدي كل يوم أرى به ... جمال محياها بعين قريرة )
( وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة )
( وأي بلاد الله حلت بها فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكة )
( وما سكنته فهو بيت مقدس ... بقرة عيني فيه أحشاي قرت )
( ومسجد الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت )
( مواطن أفراحي ومربى مآربي ... وأطوار أوطاري ومأمن خيفتي )
( مغان بها لم يدخل الدهر بيننا ... ولا كادنا صرف الزمان بفرقة )
( ولا صحبتنا النائبات بنبوة ... ولا حدثتنا الحادثات بنكبة )
( ولا اختص وقت دون وقت بطيبة ... بها كل أوقاتي مواسم لذتي )
( فإن رضيت عني فعمري كله ... زمان الصبا طيبا وعصر الشبيبة )
( وإن قربت داري فعامي كله ... ربيع اعتدال في رياض أريضة )
( بها مثل ما أمسيت أصبحت مغرما ... وما أصبحت فيه من الحسن أمست )
( فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل محبة )
( وقد جمعت أحشاي كل صبابة ... بها وجوى ينبيك عن كل صبوة )
( وكنت أرى أن التعشق منحة ... لقلبي فما إن كان إلا لمحنتي )
( ألا في سبيل الحب حالي وما عسى ... بكم أن ألاقي لو دريتم أحبتي )
( أخذتم فؤادي وهو بعضي عندكم ... فما ضركم لو كان بعضي جملتي )
( وهي جسدي مما وهي جلدي لدى ... تحمله يبلى وتبقى بليتي )
( ومنذ عفار سمي وهمت وهمت في ... وجودي فلم تظفر بكوني فكرتي )
( وبالي أبلى من ثياب تجلدي ... بل الذات في الإعدام نيطت بلذتي )
( كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي )
( وقالوا جرت حمرا دموعك قلت عن ... أمور جرت في كثرة الشوق قلت )
( نحرت لضيف السهد في جفني الكرى ... قرى فجرى دمعي دما فوق وجنتي )
( فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي ... وإيقاد نيران الخليل كلوعتي )
( ولولا زفيري أغرقتني أدمعي ... ولولا دموعي أحرقتني زفرتي )
( وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكل بلا أيوب بعض بليتي )
( وكل أذى في الحب منك إذا بدا ... جعلت له شكري مكان شكيتي )
( نعم وتباريح الصبابة إن عدت ... علي من النعماء في الحب عدت )
( وعنوان ما بي ما أبثك بعضه ... وما تحته إظهاره فوق قدرتي )
( وأسكت عجزا عن أمور كثيرة ... بنطقي إن تحصى ولو قلت قلت ) ( وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب ... وإن ملت يوما عنه فارقت ملتي )
( هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا ... من الوصل فاختر ذاك أو خل خلتي )
( ودع عنك دعوى الحب واختر لغيره ... فؤادك وادفع عنه غيك بالتي )
( وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ... وها أنت حي إن تكن صادقا مت )
( وقالوا تلاف ما بقي منك قلت لا ... أراني إلا للتلاف تلفتي )
( غرامي أقم صبري انصرم دمعي انسجم ... عدوي انتقم دهري احتكم حاسدي اشمت )
( ويا نار أحشائي أقيمي من الجوى ... حنايا ضلوعي فهي غير قويمة )
( ويا جسدي المضنى تسل عن الشقا ... ويا كبدي من لي بأن تتفتتي )
( ويا كلما أبقى الضنى مني ارتحل ... فما لك مأوى في عظام رميمة )
( وماذا عسى عني أناجي توهما ... بياء الندا أونست منك بوحشتي )
( فنفسي لم تجزع بإتلافها أسى ... ولو جزعت كانت بغيري تأست )
( فيا سقمي لا تبق لي رمقا فقد ... أبيت لبقيا العز ذل البقية )