ذكر الإغراق

( لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرا بموج فيه ملتطم )
قد تقرر في نوع المبالغة أنها إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة وهذا النوع أعني الإغراق فوق المبالغة ولكنه دون الغلو وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة وقل من فرق بينهما وغالب الناس عندهم المبالغة والإغراق والغلو نوع واحد وهنا لم يعمل بقول الحريري سامح أخاك إذا خلط
وكل من الإغراق والغلو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن بما يقربه إلى القبول كقد للاحتمال ولولا للامتناع وكاد للمقاربة وما أشبه ذلك من أنواع التقريب
وما وقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة ويدخله في باب الإمكان مثل كاد ولو وما يجري مجراهما كقوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار لكنه يمتنع عادة وما زاد وجه الإغراق هنا جمالا إلا تقريبه بكاد واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة فقلبت من الامتناع إلى الإمكان
ومن شواهد تقريب نوع الإغراق بلو قول زهير
( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا )


فاقتران هذه الجملة أيضا بامتناع قعود القوم فوق الشمس المستفاد بلو هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق
ومما استشهدوا به على هذا النوع بغير أداة التقريب قول امرىء القيس
( تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي )
وبين المكانين بعد تام فإن أذرعات من الشام والنار التي تنورها من أذرعات كانت بيثرب مدينة النبي وقد أثبتوا هذا الشاهد في باب الإغراق لأنهم قالوا لا يمتنع عقلا أن ترى النار من بعد هذه المسافة وأن لا يكون ثم حائل من جبل أو غيره من عظم جرم النار ولكن ذلك ممتنع عادة هذا إن جعلنا تنورتها نظرت إلى نارها حقيقة وأما إن جعلناه بمعنى توهمت نارها وتخيلتها في فكري فلا يكون في البيت إغراق
ومثله قول أبي الطيب المتنبي في صباه
( روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن )
( كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني )
وقالوا هنا لا يمتنع عقلا أن ينحل الشخص حتى يصير مثل الخلال ولا يستدل عليه إلا بالكلام إذ الشيء الدقيق إذا كان بعيدا لا يرى بخلاف الصوت ولكن صيرورة الشخص في النحول إلى مثل هذه الحال ممتنع عادة ولعمري إن الشيخ شرف الدين بن الفارض ضم خصر هذا المعنى الرقيق ورشحه بنفائس العقود حيث قال
( كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي )
قلت إذا قابلنا نحول المتنبي بهلال الشك الذي أبرزه ابن الفارض لم تبعد المقارنة لكن من قابل قول المتنبي انني رجل لولا مخاطبتي بقول الشيخ شرف الدين ابن الفارض في بيته كأني هلال الشك لولا تأوهي لا بد أن يقابله الله على ذلك وأين لطف لولا تأوهي من ثقل لولا مخاطبتي فالفرق بين خطاب الرجل وتأوه هلال الشك لا يخفى على حذاق أهل الأدب

ومنه قول بعضهم
( قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين )
قلت ما برح طائر فكري يحوم على ورد هذا المعنى الذي حصلت فيه المواردة على أن الشخص لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه وأريد أن أرشحه بنكتة إلى أن قلت من قصيدتي التي عارضت بها كعب بن زهير وامتدحت بها النبي
( وفوق طرس مشيبي أرخوا تلفي ... وذلك الطرس فوق الرأس محمول )
( وقد تجاوز جسمي حد كل ضنى ... وها أنا اليوم في الأوهام تخييل )
وقد تقدم وتقرر أن أداة المقاربة ما استعملت في الإغراق إلا لتنقله من الامتناع إلى الإمكان وهذا الذي أوردته بغير أداة المقاربة هنا إن كان يبعد عادة لا يبعد عقلا
ومما استشهدوا به على نوع الإغراق بلو التي يمكن الإغراق بها عقلا ويمتنع عادة قول القائل
( ولو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في النار كافر )
يريد أنه لو كان ما به من الحب بجمل لنحل حتى يدخل في سم الخياط وذلك لا يستحيل عقلا إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة وهذا غاية في الإغراق
وأورد الشيخ شهاب الدين ابن جعفر المغربي الأندلسي في شرحه الذي كتبه على بديعية صاحبه شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي على هذا البيت حكاية لطيفة وهي أن إبليس تعرض لبعض الأولياء فلم ينل منه غرضا فقال له الولي من أشد عليك العابد الجاهل أو العالم المسرف على نفسه فقال العالم المسرف وأما العابد الجاهل فهو في قبضتي أدخل عليه في دينه من حيث شئت وأنا أريك ذلك فانطلق به إلى أعبد الجهال في ذلك الزمان فطرق عليه الباب فخرج إليهما فقال له إبليس جئت أستفتيك هل الله قادر على أن يدخل الجمل في سم الخياط أو لا فتوقف وتحير وغلق الباب فقال إبليس للولي ها هو قد كفر بالشك في قدرة الله تعالى ثم انطلق به إلى عالم مسرف على نفسه وطرق عليه الباب وكان في القائلة فقال الرجل العالم من هذا الشيطان الذي يضرب بابي في القائلة وقد قال عليه الصلاة و السلام
قيلوا فإن الشياطين لا تقيل فقال إبليس ها هو قد عرفني قبل رؤيتي فلما خرج قال له إبليس هل في قدرة الله تعالى أن يدخل الجمل في سم الخياط فقال له أتشك في قدرة الله تعالى على أن يوسع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل أو يرقق الجمل حتى يصير كالخيط فيدخل في سم الخياط فانصرفا وقال إبليس لرفيقه معرفة هذا بالله تمحو ذنوبه وحاله خير من حال العابد الجاهل بالله انتهى
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على نوع الإغراق
( فى معرك لا تثير الخيل عثيره ... مما تروي المواضي تربه بدم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع أبرزه بغير أداة التقريب وهو بيت عامر قريب من العقل بعيد من الوقوع عادة على شرط الإغراق لكنه غير صالح للتجريد وقد تقرر وتكرر أن بيوت البديعيات شواهد على الأنواع فلا ينبغي أن يكون البيت متعلقا بما قبله ولا بما بعده
وبيت بديعية العميان يقولون فيه عن النبي وقد أتوا فيه بأداة التقريب حيث قالوا
( لو قابل الشهب ليلا في مطالعها ... خرت حياء وأبدت بر محترم )
( لو شا إغراق وجه الأرض أجمعه ... ندى يديه لأحياها ولم يضم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرا بموج فيه ملتطم )
على كل تقدير مقام النبي صالح للمغالاة بالإغراق في مديحه والله أعلم