وأورد العلامة زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير وصية لنفسه أوردها أيضا على نوع التهذيب والتأديب فاخترت منها ما هو اللائق بالحال وأولها ينبغي لك أيها الراغب في العمل السائل عن أوضح السبل أن تحصل المعنى قبل الشروع في النظم والقوافي قبل الأبيات قلت وهذا مذهبنا ثم قال ابن أبي الأصبع ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص وروي مقصود وتوخ الكلام الجزل دون الرذل والسهل دون الصعب والعذب دون المستكره والمستحسن دون المستهجن ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل فإن الكثير معه قليل والنفيس معه خسيس والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت وإذا كثر استعمالها نزحت واكتب كل معنى يسنح وقيد كل فائدة تعرض فإن نتائج الأفكار كلمعة البرق ولمحة الطرف إن لم تقيدها شردت وندت وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت والترنم بالشعر مما يعين عليه فقد قال الشاعر
( وتغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار )
وقد يكل خاطر الشاعر ويعصى عليه الشعر زمانا كما روي عن الفرزدق أنه قال لقد يمر علي زمان وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من أن أقول بيتا واحدا وإذا كان كذلك فاتركه حتى يأتيك عفوا وينقاد إليك طوعا وإياك وتعقيد المعاني وتقصير الألفاظ وتوخ حسن النسق عند التهذيب ليكون كلامك بعضه آخذ بأعناق بعض وكرر التنقيح وعاود التهذيب ولا يخرج عنك ما نظمته إلا بعد تدقيق النقد وإمعان النظر انتهى
قلت وهذا لعمري هو المراد من النوع الذي نحن في شرحه أعني نوع التهذيب والتأديب لا كقول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
فإن الممدوح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك وأما التقديم والتأخير ففي قوله وما مثله البيت فإن تقديره وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه وسلوك طريق التعقيد في قوله أبو أمه أبوه وكان يجزيه قوله جده وهذا لعمري هو التعقيد الذي بينه وبين التهذيب والتأديب الذي قررناه بعد المشرقين وقد تقدم قولي إن البديعيين أجمعوا على أن هذا النوع ليس له شاهد يخصه لأنه وصف يعم كل كلام منقح فاختصرت الشواهد ليظهر للمتأمل من أحرز قصبات السبق من نظام البديعيات في هذا النوع أعني التهذيب والتأديب
ولكن رأيت العلامة زكي الدين بن أبي الأصبع قد استحسن من الشواهد اللائقة بهذا النوع قول القاضي السعيد بن سنا الملك
( تغنى عليها حليها طربا بها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا )
قال وقوله صحيح لو لم تقدم في صدر البيت لفظة مشتقة من الغناء حصل بها في البيت من الرونق ما لا يحسن بدونها وكان البيت خاليا من التهذيب فإن بوجودها حصل في بيته تصدير وتجنيس وائتلاف وتهذيب وانتفى عنه من العيوب عدم الائتلاف وقلق القافية وبذلك تقدم التهذيب فإنه لو قال
( زهت بأزاهير الجمال وحسنها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع يقول فيه عن النبي
( هو النبي الذي آياته ظهرت ... من قبل مظهره للناس في القدم )
قد تكرر قولي أنني لم أكثر من شواهد هذا النوع إلا ليظهر فيه من أحرز قصبات السبق من نظام البديعيات
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( والله هذبه طفلا وأدبه ... فلم يحل هديه الزاكي ولم يرم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم ) هذا البيت يشتمل ببركة من أدبه ربه فأحسن تأديبه وهو الممدوح على عشرة أنواع من البديع أولها النوع الذي هو شاهد عليه وهو التهذيب والتأديب والانسجام والسهولة والتورية بتسمية النوع والتتميم والتكميل والتمكين والإيغال والائتلاف والمبالغة ولولا الخوف من الإطالة لذكرت كل نوع في موضعه ولكن في نظر أصحاب الذوق السليم من علماء هذا الفن ما يغني عن ذلك والله أعلم