وصلنا إلى الجزء الثاني من حكاية الرجل الحالم فدعونا نرى ما كان من حلمه ذاك نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



إنهم يسخرونَ مني ويرونَ أنه مجرّد حُلم، ولكن سواءَ كان ما رأيتُهُ حُلماً أم لا فالأهمُ أنه أظهر لي "الحقيقة"، وما دمتُ قد عاينتُ الحقيقة الأزليّة وعرفتُها وعرفتُ أن لا حقيقة سواها فما أهميّة أن أكون قد فعلتُ ذلك في الحلم أم اليقظة و ليكن حُلماً، إن تلك الحياة التي تعلونَ من شأنها كنتُ سأنهيها بطلقة مُسدّس، لكن حُلمي، حُلمي أنا ـفقد حَمَل إليّ حياةً جديدة، عظيمة، متجدّدة، و قويّة!‏


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


(( 3 ))

إسمعوا : لقد قلتُ إنني نمتُ و ما أحسستُ كيف حدث ذلك، لكأنني كنت لا أزال أقلّبُ تلك الأمور.‏

و رأيتُ نفسي أمسك المسدّس و أنا في وضعيتي نفسها و أسددُهُ إلى قلبي مُباشرةً ـ إلى قلبي و ليسَ إلى رأسي، وكنتُ من قبل قد خططتُ أن أسدِدَ إلى صدغي الأيسر، وضعتُ المسدسَ إذاً في صدري وانتظرتُ ثانية أو اثنتين، فإذا بالشمعة و الطاولة و الجدار أمامي تهتزُ و تترنّح، فأسرعتُ أطلقُ النار.‏

في الحُلمِ تسقطُ أحياناً من مكانٍ شاهقٍ، أو تُطعن أو تُضرب، لكنك لا تحسُّ على الأغلب بالألم، إلا أن تكون قد آذيتَ نفسكَ بالسرير، وتستيقظُ تحت الشعور بالألم، وهذا ما حَدَثَ في حُلمي: فأنا لم أشعر بالألم جَرّاء إطلاق النار ولكن خُيّل لي أنني تلقيتُ صدمة هَزّتني كُلّي ثم شعرتُ بالسكينة، و أحاطتني ظلمةٌ شديدة، لكأنني أصبحتُ أعمى وأخرس، ثُمَّ ها آنذا أضطجِعُ فوق شيء ما صلب ممّدداً و مقلوباً، لا أرى شيئاً ولا أستطيع أن أتحرّك، البشر من حولي يصرخون و يعبرون، و الكابتن يزمجر، و صاحبة البيت تعول ـ ثُمَّ يَعمّ الهدوءُ من جديد، وها هم يحملونني في تابوتٍ مُغلق، وأحسُّ التابوت يتأرجح، فأفكر في الأمر، وتصعقُني لأوّل مرّةٍ فكرة مفادها أنني ميّت ميت تماماً، أعلمُ ذلك ولا أشكُ فيه، لا أتحرّك، لا أرى شيئاً، لكنني أحسُّ وأفكّر. وسرعان ما ألفتُ هذا الوضعَ وفقاً لمنطق الحلم نفسه، وقبلتُ الأمر دون اعتراض.‏

وها هم يدفنونني في الأرض، ثُمَ يغادرون، أظّلُ وحيداً، وحيداً تماماً، لا أستطيع الحركة.‏

كنتُ فيما مضى حين أتخيّلُ كيف سأُدفَن في القبر، أجدُني دائماً أربطُ بين القبر ومشاعر الوحدةِ والإحساس بالبرد، ولهذا فأنا أشعرُ الآن بالبرد الشديد، ولا سيّما في نهاياتِ أصابعِ قدميَّ، وسوى ذلك لا أشعرُ بشيء.‏

كنتُ ممدّداً ومن الغريب أنني لم أكن أنتظرُ شيئاً، وكنتُ على يقين لا اعتراضَ فيه أن على الميّت ألا ينتظر شيئاً. لا أعلم كم مَرّ من الوقت ـ ساعة أم عدّة أيام، أم أيام كثيرة.‏

ثُمّ إذا بقطرةٍ ماءٍ كبيرة تسقطُ فجأةً من غطاء التابوت في عيني اليُسرى المغمضة، وتتلوها بعد دقيقة قطرة أخرى، وهكذا يستمرُ تساقط القطرات كل دقيقة، فأشعرُ بغيظ شديدٍ في قلبي، ثُمّ أحسُّ بألمٍ فيزيائيٍ فيه: "إنّه جُرحي ـ فكرتُ ـ هذا موضِعُ الرصاصة" ويستمرُ تساقطُ القطرات كل دقيقة واحدة و مباشرةً على عيني المغلقة.‏

وفجأةً وجدتُني أصرُخُ بكل ما فيّ من مشاعر ـ ولكن دون صوت فقد كنت جامداً لا حراكَ فيّ ـ وجدتُني أصرخُ منادياً ذاك الذي يتحكّم بي.‏

ـ أياً كنتَ؛ إن كنتَ موجوداً، وإن كان من الممكن وجود ما يحدث الآن، ولو على سبيل الانتقام مني بسبب انتحاري الغبي فلا تسمح بحدوث ذلك لأنكَ لن تلقى مني إلا السخرية، فالتعذيب الذي يقعُ عليّ الآن، مهما كان لا يَعْدِلُ شعوري بالاحتقار الذي سأحسّهُ صامتاً و لو لملايين السنين القادمة!‏

ناديتُ بكلامي ذاك ثُمّ سكتُ، مَرّت دقيقةٌ من صمتٍ عميق، وسقطت قطرةُ ماءٍ واحدة لكنني كنت أعلم علمَ اليقين أن كل هذا الأمر سيتغيّر فجأةً، وها هو ذا القبرُ ينفتحُ فجأةً، أو لنقل أنني لم أكن أعرف هل انفتَحَ القبرُ أو كان كذلك أو ذابَ الغطاء، لكنني أحسستُ أن كائناً غامضاً ومجهولاً أمسكني وطار بي في الفضاء، ثُمَ أعادَ لي بصري بغتةً، لكن الظلام كان حالكاً كما لم أرهُ من قبل، لم أسأل الكائن الذي حملني وبقيت صامتاً محتفظاً بكبريائي، لا أشعر بالخوف؛ وسعيداً بذلك، لا أستطيع أن أتذكر كم طرنا، وليس بإمكاني تصوّر ذلك: فقد حدث ما حدث كما هو الأمرُ في الأحلام تجتازُ الأماكن و الأزمنة، وتخترقُ كُلّ قوانين العقل والدنيا ولا تلتقطُ شيئاً محَدّداً.‏


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

يتبع ...