قلت : ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان (2).
إحداهما : أن إسرائيل ، عليه السلام ، حرّم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان هذا سائغًا في شريعتهم (3) فله مناسبة بعد قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبُّه العبد ويشتهيه ، كما قال : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [البقرة : 177] وقال { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [الإنسان : 8].
المناسبة الثانية : لمَّا تقدّم السياق في الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبين زَيْف ما ذهبوا إليه. وظهور (4) الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته ، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى - شَرَع في الرد على اليهود ، قَبَّحهم الله ، وبيان أن النَّسْخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله ، عز وجل ، قد نصّ في كتابهم التوراة أن نوحا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخر زيادة على ذلك. وكان الله ، عز وجل ، قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك. وكان التَّسَرِّي على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم ، وقد فعله [الخليل] (5) إبراهيم في هاجر لما تسرَّى بها على سارّة ، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم. وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعا (6) وقد فعله يعقوب ، عليه السلام ، جمع بين الأختين ، ثم حُرِّم ذلك عليهم في التوراة. وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، فهذا هو النسخ بعينه ، فكذلك (7) فليكن ما شرعه الله للمسيح ، عليه السلام ، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ومِلَّة أبيه إبراهيم فما بَالُهم (8) لا يؤمنون ؟ ولهذا قال [تعالى] (9) { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : كان حِلا (10) لهم جميعُ الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرَّمه إسرائيل ، ثم قال : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فإنها ناطقة بما قلناه { فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }