رسالة من قلبٍ محب : أصحاب الهمم العالية (1)
إن لذة كل أحد على حسب قدره وهِمَّته، وشرف نفسه ؛ فأشرف الناس نفسًا ، وأعلاهم هِمَّة ، وأرفعهم قدرًا - مَن لذَّته في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبُّه ويرضاه ، فلذَّته في إقباله عليه وعكوف هِمَّته عليه.
ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله ؛ حتى تنتهي إلى مَن لذَّته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام ، والأفعال والأشغال .
والفرق كبير بين الضعفين ، والبون شاسع ، ولو عرض على مَن هِمَّته عَلِيَّة أن يتلذذ بهذه السفاسف ، لنفر منها وتركها ، والعكس صحيح ؛ فلو عرض على الثاني التلذُّذ بالطاعة ، والتعلُّق بالله ، لنفر من ذلك والعياذ بالله .
وأكمل الناس لذة مَن جمع له بين لذَّة القلب والروح ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظَّه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذَّة المعرفة والمحبة والأنس بربِّه، والقرب منه بإخلاص العبودية له - سبحانه - فهذا الصنف ممن قال الله فيهم:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ}
[الأعراف: 32].
وأبخس الناس حظًّا مِن اللذة مَن تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة، فيكون ممن يُقال لهم يوم استيفاء اللذات:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَ}
[الأحقاف: 20].
فالجميع تمتعوا بالطيبات ، لكن الصنف المحمود تمتعوا بها على الوجه الذي أذن الله فيه ، فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة.
والصنف الثاني المذموم تمتعوا بها على الوجه الذي لم يأذن الله به ، بل دعاهم إليه الهوى والشهوة ، فانقطعت عنهم لذة الدنيا ، وفاتتهم لذة الآخرة ، فلا لذة الدنيا دامت ، ولا لذة الآخرة حصلت لهم.
فمن أحبَّ اللذة ودوامها والعيش الطيب، فليجعل لذة الدنيا موصلة إلى لذة الآخرة؛ بأن يستعين على فراغ قلبه لله، فيخلص في عبادته، ويتناول ما يُعرض له من ملذَّات الدنيا على أساس الاستعانة والقوة على الطاعة والعبادة، لا لمجرَّد الشهوة والهوى، حتى وإن كان ممن لم يدرك لذات الدنيا وطيباتها، فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة، ويجاهد في منع نفسه منها بالترك؛ ليستوفيها كاملة في الآخرة، فطيبات الدنيا ولذَّاتها نعم العون لمن صحَّ طلبه لله والدار الآخرة، وكانت هِمَّته لما هناك، وبئس القاطع لمن كانت هي مقصوده وهِمَّته وحولها يدندن، وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة.
فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة، ظفر بهما جميعًا.
فلا شيء أفسد للقلب من التعلُّق بالدنيا والركون إليها ؛ فإن متاعها قليل ، ولا تطمعوا بالإقامة فيها؛ فإن البقاء فيها مستحيل، كيف لا والمنادي يناجي كل يوم: يا عباد الله، الرحيل، الرحيل، فالموت ما فيه فوت ولا تعجيل، ولا يقبل الفداء ولا التبديل، فلنستعد له؛ فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد.
والتعلُّق بالدنيا وإيثارها، والركون إليها - يُقعد المسلم عن التطلُّع إلى الآخرة، والعمل وإتعاب الجسد في سبيل الله والدعوة إليه، وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على الطاعة والعبادة، والقيام بحقوق الله، وحقوق الناس والدنيا فيها قابلية الإغراء لمن تعلَّق بها وأحبَّها؛ ولهذا وصفها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)).
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.