كانوا يستمعونَ إلي وكنتُ أرى أنهم لا يستطيعونَ تصوّر ما أقوله، ولكنني لم أندم على ما قلتُهُ لهم. وعلمتُ أنهم يفهمونَ قوّة حنيني إلى أولئكَ الذين فارقتهم.
بلى؛ عندما كانوا ينظرونَ إليّ بنظراتِ محبّتهم النفّاذةِ العذبة، فأحسُ أن قلبي في حضرتهم يصبُحُ بريئاً وصادقاً كقلوبهم كنتُ حينها لا أشعُرُ بالندم أنني لا أفهمُهم. وتحت تأثير الإحساسِ بامتلاء الحياة بينهم كانت تتقطّعُ أنفاسي وأبدأُ بالصلاةِ لأجلِهم صامتاً.
[...> أتعلمونَ؛ سأبوحُ لكم بسر: رُبّما كل ما سبق لم يكن حُلماً! لأن ما حَدَثَ كانَ مهولاً وفظيعاً في حقيقتِهِ، بحيث لا يمكن أن يتراءى في حُلم.
ولنفترض أن حُلمي هذا كان وليدَ قلبي، فهل باستطاعة قلبي منفرداً أن يلدَ تلك الحقيقة الهائلة، التي تحققت بعد ذلك؟ كيفَ كانَ بإمكاني أنا وحدي أن أتخيّل كل ذلك، أو أن أَحْلُمَ بهِ في فؤادي؟ وهل باستطاعةِ قلبي الصغير، وَعَقْلي الضحل المُتَقلّب أن يتساميا إلى تلك السويّةِ من معرفةِ الحقيقة؟ احكموا على ذلك بأنفسكم: أنا حتى هذهِ اللحظة كتمتُ الكثير عنكم، لكنني الآن سأقول كل الحقيقة.
الأمرُ وما فيه أنني... قد أفسدتُ الجميع!
نعم، نعم، لقد انتهى بي الأمرُ إلى إفسادهم جميعاً! كيف حدث ذلك ـ لا أعلم!
لا أذكرُ تماماً. لقد طار الحُلمُ عابراً ألوف السنوات وتركَ في نفسي إحساساً مُتكامِلاً فحسب. ما أعلَمُهُ أنني أنا نفسي سبب الإثم الأوّل. فكدودةِ خنزير، كذرّة طاعونٍ، يمكن أن تُعدي بلداً كاملاً، أمَرضتُ بحضوري أرضاً سعيدةً لا خطيئةَ فيها.
لقد تعلَّموا الكذب وأحبّوه وعَرَفوا مواطن الجمال فيه. رُبّما بدأ الأمرُ (بريئاً) على سبيل المزاح، أو الغنجِ والدعابة واللعب، وحقيقة الأمرُ أن البداية كانت ذرةً؛ لكن ذرّة الكذب تلك تسرّبت إلى قُلوبهم وأعجبتهم. بعد ذلك ظهرت اللذّة بسرعة، واللذّةُ ولّدت الغيرة، والغيرةُ بدورها ـ وّلدت القسوة... آه، لا أعلم؛ لا أذكر ولكن بعد ذلك بقليل سُفِحَ الدمُ الأوّل: فدهشوا وذعروا، وتفرّقوا، وتباعدوا عن بعضهم. ثُمّ ظهرتِ التحالفات، ولكن الواحدَ ضد الآخر، وبدأت المعاتباتُ والتقريعات. وعرفوا الخجل، الذي أمسى فضيلةً، وظهَرَ مفهومُ الشرف، ورفَعَ كل حِلفٍ رايتَهُ الخاصة. وبدؤوا يعذّبون الحيوانات، ففّرت منهم إلى الغابات وأصبحت عدواً لهم، ثم بدأت المعركةُ لأجلِ "الانفصال" و"الفرديّة" و"الشخصيّة" لأجلِ: هذا لك وهذا لي. وأخذوا يتحدّثونَ بلغاتٍ مختلفة، وعرفوا الاكتئاب، وأحبّوه.
وتعطّشوا للعذاب، فقالوا إن الحقيقة لا تُبْلَغُ إلا بالعذاب. وعند ذلك ظهرَ العِلمُ عندهم، وعندما أصبحوا أشراراً أخذوا يتحدّثونَ عن الأخوّة والإنسانيّة وفهموا تلك الأفكار. وعندما أصبحوا مجرمين اخترعوا العدالة، وكتبوا قوانينَ تصونها، ولأجلِ تطبيق القوانين نصبوا المقصلة. وما تذكّروا إلا قليلاً ما فقدوه ورفضوا أن يصدّقوا أنهم كانوا ذات يوم بريئين وسعداء، بل سخروا من إمكانية تحقق نموذج سعادتهم القديمة وسمّوه حُلماً، وعجزوا عن تصوّرِهِ في شكلٍ أو هيئةٍ محسوسة، ومن غريب الأمور: أنهم رغمَ فقدانهم الإيمان بسعادتهم البائدة، وتسميتهم إياها حكاية أو خُرافة، ظلّوا يتوقونَ بقوّة إلى استعادةِ براءتهم وسعادتهم، وسجدوا ثانيةً أمامَ أمنياتِ قلوبهم تلك كالأطفال، وألّهوا تلك الأمنيات، فبنوا مَعابِدَ وراحوا يصلّون فيها لتلك الأفكار، لتلك "الأُمنيات"، مَعَ علمِهم أنها غير قابلة للتحقق، ولكن الدموع مع ذلك ظلّت تُرافق صلواتهم وخشوعهم، ورغم ذلك لو كان باستطاعتهم العودةَ إلى تلك الحالة من البراءة والسعادة، التي فقدوها، وتمكّن أحدٌ ما من وضع تلك الحالة أمامهم وسألهم: هل يرغبون بالعودة إليها؟ ـ لأجابوا أغلب الظن بالرفض. ولقالوا: "فليكن أننا كذابون، أشرار، وغير عادلين، (نعلمُ ذلك) ونبكي ونعذّب أنفسنا بسببهِ، ونعاقبُ ذواتنا بصورة أشد بكثير مما يمكن للدّيانِ الرحيم أن يفعل بنا حين يحاسبنا، وما زلنا لا نعرفُ اسمَه.
يتبع ...