لم تكن هناك ثمة حاجة إلى ساعة تقيد معصمه الأيسر وتملي عليه الزمن كما تشاء,كانت أعضاؤه تتحرك بالاتجاه المقدر عليها وعلى المربعات المتشابهة طولاً وعرضاً و في الوقت المحدد لها سلفاً, لا يهمه إن كان في الجناح الثاني حيث الأكف هناك أنعم وروائح الخلوة أشهى وألذ, بل ربما يكفيه جناح واحد ليحلق,ليظلل المساحات الملتهبة في جانبه الأيمن حيث استقرت الطلقة التي أصابته سهواً من صياد جمع بينهما حب الاقتناص . تخونه الذاكرة في كل شيء عدا اجترار اللحظة التي تلكزه كل وجع مؤنبة إياه : لماذا كنتَ هناك؟ حيث شخص يقتنص الطيور وآخر يقتنص الوحدة الهاربة في الزمن المزدحم! يا لسخرية القدر..! أكان لزاماً عليه أن يرفع ذراعيه إلى السماء يغازل بها كف الغمام لتأتيه طلقة ضلت سيرها نحو طائرِ منطلق من الأرض؟!
يشك الآن في كون الأنوثة هي نحسه الملازم .. فالوحدة التي دفعته إلى هذا القدر أنثى,, والرصاصة أنثى,,والضمادة الناعمة هي الأخرى أنثى! بؤساً للبشر مذ كان القدر ذكراً !
يعرج بذراعه المنكوبة ليكتب بضعة كلمات ذات أمل :
< حبيبتي : ممتن لباقة الورد- لكن متى تأتين وقد قضيت من العمر هنا أطوله إلا قليلاً؟ – أيلول المقبل سأحصل على إذنٍ بالخروج>
تلك التي ينتظرها..! قريبة هي منه على مرمى صرخة,,بعيدة هي عنه على مرمى ضحكة قدر.
لا يدري- وهو المعتقل في داخله- إلى أين سيخرج ؟ ولا يعرف -وهو المعاق شهية - لماذا سيخرج ؟
كانت ستكون ملجأه لولا أنها امرأة.... مربوطة دائما بتاء الأنوثة الملتوية كأفعى, كما الحب مقبوض عليه في كف خيانة,كما النور مرتهنُ في شفة شمعة, كما القوة منتكسة أمام كرية دم بيضاء عاجزة!
أدرج ورقته الصغيرة في مظروفٍ أحمر وجده مع أحدى الباقات وغلفه قبل ذلك بيأسه. تأكد قبل أن يناول الممرضة الظرف المستعار خشية أن يرد إليها الرسالة في ذات الظرف,, رغم اختلاف الظروف التي تمت فيها الاثنتان,,حيث الأولى جمّدَتْـها بين يديه ذات شتاء :< أتمنى لكَ السلامة > والأخرى أحرق بها الوعد ذات صيف: <سأخرج>!
يمتعض كل شي فيه إلا وجهه , لكن ذلك لا يخفى على الممرضة التي تلتفت فجأة ثم تعود إليه لتغرس له إبرة مهدئة في الجزء المتبقي من أعلى الذراع على شفا هاوية من مكان كانت فيه بقية من ذراع,, ثم تتركه وهو يتمتم بكلمات ما قبل الغيبوبة:
لقد أوجعتني يا مجرمة.. أقسم أنكِ متآمرة معها..الجريمة امرأة !
* * *
في اليوم التالي كان كل شيءِ هناك ساكناً كما لو أن الحياة متوقفة عن السير لأجل سجود سهو ومن أجل مريض غير مسمى! قال لها وهي تنتشل الضمادة المنقطة بالأحمر :
ألم يصلني مرسال؟
حدقت فيه ساخرة ثم أردفت:
تقصد رسالة..أليس كذلك؟
يهتاج فجأة من على سريره الأبيض ويُسمع صوت ارتطام,,وتمتزج استغاثة المرأة بلعنات الرجل,, ودوي في الجناح الأول يعلن عن حالة خروج عن المألوف في رواقٍ كل ما فيه من النظام مُتقن!
هناك..وفي زاوية تحتضن العتمة .. يدركُ يائساً أنه لم يعد يحلم بالجناح الثاني ليطير.. فحتى الجناح الأول غدا مقصوصاً عمداً ,, ولا مأوى له سوى الإنفراد في غرفة العزل حيث عُلقتْ لوحة كتب عليه بخطِ مريض :
<نرجو الهدوء لراحة النزلاء>
رغم أن النزيل ذاته يحتاج إلى مزيدِ من الصخب ليستيقظ الأمل بأعماقه المظلمة,,
يعرف هو في نفسه أنه مريض..لكنه لا يدرك أبدا لماذا يسميه البعض مريضاً نفسياً! أليست كل النفوس تمرض حين يكون الدواء شراباً مراً ممزوجاً بنكهة سم؟
ألم تكن هي تلك المواربة وفاءً تتمتع بالمودة والعافية ثم أنهكها اليأس فمرضت بسبة ملاك قُص إحدى جناحيه؟يشهد الآن أن لا قصاص إلا لأنثى أعدمته انتظاراً ,, يؤمن الآن بكل ما بقي فيه من عقل أن الأنثى لا تعود لرجلٍ فقد ذراعه حين كان يناجي السماء لتمطر عليه حبيبة طال تكثفها .. تماماً كما يؤمن أن نقطة الماء الطافية استعلاءً لا تمتزج بزيتِ فقد قدرته على الاشتعال لأجلها,,يركض صوته متعثراً بالخواء في روحه : الوحدة .. الوحدة.. خيرٌ من أنثى السوء!
* * *