السلام عليكم ورحمة الله
" بائعة الدجر ” مجموعة قصصية ، أصدرها القاص ” إبراهيم جبران ”
احتوت على عشرين قصة قصيرة ، قدمها على هيئة كتاب إلكتروني للأجهزة الذكية ،
وكان الراوي خلال هذه المجموعة يروي أقاصيصه بلغة متقنة ، يستخدم خلالها اللفظة
الجازانية ، موظفا إياها في سياق فصيح ، ولقد فاجأنا القاص بنشر مجموعته الأولى
هذه مستوفية الشروط الفنية للسرد المتقن ، ولعل ما يميز مجموعته ” بائعة الدجر ”
هو ذلك الحس الفكاهي الذي امتاز به الراوي
اخترت لكم من هذه المجموعة .. قصة بائعة الدجر
ارجوا ان تحوز على اعجابكم ورضاكم ..
ورثت "حالية" عن زوجها "
الذي مات مجدوراً؛ نصف معاد
من من قيراط على حافة الوادي الذي لا ينقطع غيله،
وقيراطين وربع الثمن
تحيط بها أراضي الشيخ "مهدي معكرش "
من جهاتها الثالث المتبقية .
ومنذ رحيل زوجها وشيخ القرية "ابن معكرش يحوم
عليها كـ" خزي" على حد وصف حالية المتوجسة منه خيفة ً
حيث كان يحاول بشتى الطرق ضمها إلى أطيانه لكن "حالية" عاهدت فقيدها
أن تذود عنها لو كلفها ذلك روحها، ففيها قوتها وقوت طفليها اليتيمين .
منذ أن رحل زوجها .. وهي تحمل عبء طفلين وهم
أطماع شيخ القرية الذي اعتاد نهب قراريط أرامل ويتامى رعيته وضمها
الى املاكه بطرقة ماكرة .. مستغلا بذلك نفوذه الواسع
اشتهرت "حالية" في قريتها وبعض القرى القريبة ببيع
الدجر الذي لا تجود زراعته في غير زهبها على امتداد الوادي وعززت خبرتها في
إدارة شؤون الزهب من جودة محصولها الذي يتوافد على شرائه الرجال
والنساء من كل مكان، حتى أصبح " دجر حالية " مضر ب المثل ، فهي
تعرف مواعيد زراعته وجنيه وكيف تختا ر أجوده وأن ضجه للبيع، بينما
تخزن الباقي
كبذور للمواسم التالية، كما أنها تهتم باقتالع النباتات التي
تضر بأصول ال دجر وتزاحمه على موارد مائه ناهيك عن اجتذابها لكثير
من الحشرات واليرقات الضارة خصوصا العسال الذي عادة ما يتلف
كثير من حقول الّدجر المجاورة.
وقف الشيخ على زبير ز هب "حالية" ممتطيا ً ظهر حماره المصري الفتي
يرافقه أحد عبيده، وقد دنت الشمس نحو المغيب
حالية .. تهم بربط مضرابها الممتلئ د جرا ً على أحد جانبي رحل حمارها الصغير وقد شدت
على جانبه الاخر شاطرتها النصف ممتلئة وهبشتين من الايبد والا فليق
وبعض ال بجيرا.
لم يسلم الشيخ "مهدي" واكتفى بقوله : أال روحي أنت يا ذا ال دجر، ثم
أردف هرجته بضحكة خافته و شت بمكر يضمره
لم تعرعه "حالية" أي اهتمام وأكملت شد متاعها في تجاهل تام .. ثم غابت بين الاشجار ..
مرت الا يام والشهور والحال كما هو ..
لم يدع الشيخ حيلة الا واستعان بها لكنه لم يفلح .. حاول بالمال والجاه
لكنه كان يفشل دائما ً أمام حكمة الارملة وقوة عزيمته
حتى أنه اعترف ذات مساء برأس "حالية" اليابس على " حمد شامي"
وهو من الرجال الذين يستعين بهم كشاهد زور في عمليات استيلائه على
الاراضي التي يطمع فيها.
كل من سلب أرضهم من بسطاء القرية كانوا يراهنون على سقوط
"حالية" أمام جبروت الشيخ ومكره وقلة منهم كانوا يشدون من أزرها.
لم يكن أحد يجرؤ على إعلان سخطه من الشيخ والاعتراف بلصوصيته
جهرا الا ( عبده قشر )
فهو رجل فقد عقله بعد أن ماتت زوجته غرقا ً أمام ناظريه حيث جرفها السيل الكبير
قبل سنوات أذهب بعدها حزنه الشديد ووحدته عقله بعد عام من رحيلها.
استمرت الحرب الباردة بين الطرفين لسنوات أيقنت "حالية" خلالها
بشراسة الشيخ وتأكد لها خبث نفسه وأنه لن يتوانى في استخدام أي حيلة
للحصول على مبتغاه، وقل حولها المؤازرون وبدأت الحاجة تأكل أطراف
عزيمتها وجوع أطفالها يقض مضجعها
فمنذ عام ونص لم يخض ر الوادي
ولم تغسل السماء جبين األرض ، وأضحت الزهوب جحرا تعوي الريح فيها
لم تمر على الوادي سنين قحط كهذه، الموسرين فقط من وجهاء القرية لم
تتفاقم حاجتهم ولم يلوكهم العوز لما يدخرونه من محاصيل في عجارها.
أما البسطاء ممن ال يملكون إال قوت يومهم فقد أهلك صبرهم الجوع ،
وباع بعضهم من أطيانه للشيخ ومن دوابه للموسرين المتنفذين.
وحالية صامدة أمام بطش الفاقة ومحاوالت الشيخ استغالل حاجتها
المتنامية كل يوم، تعرف جيدا ً أنه سيستغل هذا الجدب وحاجة الجياع
لكنها تفضل الموت على ان تمنحه فرحة انتصار ينتظرها.
"عبده قشر " هو الاخر لم يرحمه العوز إذ لم يجد
من هبات أهالي القرية شيئا ً فهم أحوج منه لما كانوا به يتصدقون.
اضطرته الحاجة إلى مالزمة مجلس الشيخ مقتاتا ً على فتات موائده رغم
ما يحمله في صدره من غل فقد أخذ ما ورثه عن زوجته الراحلة ..
تتالت األيام وبالغ الجوع في قسوته حتى أن عددا ً من أبقار الاهالي
ونعاجهم أضحت زادا ً لسباع الوادي بعد أن أهلكها الجوع، وعددا ً من
البيوتات قصدوا الجبال "منجعين" عل قوتا ً ينتظرهم .
تتعالى القهقهات في مجلس الشيخ الذي لم يشارك رعيته فاجعتهم بل
شكلت تلك المصيبة أعظم مرابحه التي لم تكتمل بعد فحتى الان لم يضفر
بزهب "حالية" .
وأمام قسوة القدر وسطوة الابتلاء وضغوط الشيخ ومضايقات رجاله
اتجهت "حالية" في جوف ليلها إلى هللا، رفعت أكف الرهبة والرجاء إلى
رب العباد المنهكين في أرضه، شقت دعواتها كبد السماء نحو من ال يرد
الطالبين :
اللهم إنا عبيدك لا حول لنا و لا قوة ، أهلك القحط الحرث
والنسل ، وبتنا إلى القنوط أقرب فال تكلنا إلى أنفسنا وأعمالنا وأنت أرحم
الراحمين، اللهم لا تمكن لظالم علي رقاب عبيدك الجائعين اللهم لا تسخر له
من يعينه على الباطل واكفنا شر جاهه وماله.
اللهم إنه قد طغى ومنع الناس أرزاقها فال تقم له بعد اليوم قائمة .
اللهم ارسل علينا كتائب رحمتك مطرا ً يحيي آمال القانطين اللهم ارسل
السماء مدرارا ً فنحن عبيدك الضعفاء .
اتحدت روح "حالية" بخالقها وسرت في هزيع الليل تعترش السماء
ودموعها تفيض انكسارا ً وخوفا ً ورجاء.
لتتهاوى قوى جسدها النحيل وتغيب عن وعيها وتغط في سبات عميق ..
في الصباح أفاقت القرية على "والش" العجوز "علي طيران" الذي شق
صمت الوادي ففي الافق تباشير خير ، وكتائب "قليص" تعدو من بعيد
تلون السماء ببياضها المختلط بقتامة .
خرج الرجال من عششهم و " صبولهم" جرداً الا من حيكة بالية، والنساء
خرجن كاشفات الرؤوس ومن خلفهن أطفالهن عرا ًة
انتزعهم الفرح من سكونهم وقذف بهم في ساحات البيوت ينظرون في
أمر "والش" "طيران"، فما عرفوه اال صادقا ً يحمل "والش ه" بشارات
الخي
البروق تضيئ العتمة والرعود تهز األرض هزاً، وكأنهم ألول مرة
يستقبلون خير السماء . فاضت األزقة وسالت نحو الوادي الذي امتألت
رداحه غير أنه مازال ينتظر النازل من قمم الجبال .
الرجال يتسابقون بمساحههم يشقون في القبلان
مسارب نحو الازقة
استعد رجال القرية بمساحهم و فؤوسهم وانتشروا على ز بر الوادي.
تأكيدات "طيران" طمأنت حالية على "زهبها" فالسيل الكبير الذي ينتظره
الوادي سيعم كل الرداح، وستفيض "الزهوب" بإذن هللا.
الشيخ أوعز لهبيده تجهيز حماره المصري وأرسل يطلب المساح والفؤوس
وانطلق مصطحبا ً خمسة من أقوى عبيده يرافقه " ح ّم د شا م ي"، خرج
يحمل شيئا من الشر تجاه حالية وزهبها، فهي فرصته كما أسر بذلك
لابن الشامي" .
امتلأ الوادي بالمنتظرين المتحفزين للقادم الكبير، و"حالية" مع صغيريها
و عدد من النسوة يراقبن من بعيد المشهد المهيب.
تعالت صيحات الرجال متناقلين خبر السيل الهادر الذي نسف عقم الجحدري
، وساوى زبر بلاده بالارض ، وهو في طريقه إلى رداحهم.
قليلة هي الزبر التي صمدت في وجه السيل المندفع.
غير أن الشيخ ما فتئ يطمئن مرافقيه أن "عقمه" سيروض السيل الهادر.
وهو ومن معه يراقبون كيف أن السيل يبتلع كل ما في طريقه، واقفين
بزهو فوق "عقمهم" الشاهق الذي تقع خلفه بعض رداح ألهالي القرية ،
وقد أمر عبيده بألا يفجرون العقم ويقفون سدا في وجه أي محاولة لذلك.
"حالية" تراقب من بعيد والسيل كأفعى عمالقة تتسلل من زهب إلى آخر
مبتلعة كل ما يصادفها
.
ابن قشرة يصيح بالواقفين على عقم الشيخ أن اهربوا قبل أن يبتلعكم
السيل.
انسحب الرجال من حقولهم التي طمرتها المياه واكتفوا بالمراقبة فقط ،
فهذا السيل خالف ما عهدوه من سيول.
الشيخ سلم حماره إلى أحد العبيد وأمره بإعادته إلي البيت وأمر الباقي بحراسة العقم .
أخذ يطمئن على عقمه، يسد خبار
والسيل يزداد وتتضاعف قوته، تفتت ذلك العقم الذي بدى
للراي قويا وللشيخ أقوى دفاعات الوادي.
أدرك الرجال أن لا أمان لهم وأن عليهم الاسحاب إلى مرتفع يعصمهم من
الماء، برغم تأكيدات الشيخ أن لا ضرر سيمسهم فعقمه أقوى من أي
سيل وأنه "سيفجر" له بعد أن يتم سقيا أطيانه الممتدة
ثقة الشيخ بعقمه لم تفنع " حمد شامي " ومن تبقى من العبيد، فانسحبوا
خلسة تاركين شيخهم في غمرة الانشغال
الشيخ ما أن يسد خبارة حتى تولد أخرى وهو يصيح أن "أربعوا" العقم
من الجهة السفلى، وال أحد يسمع فيلبي.
اكتملت تعزيزات الهادر والتهم آخر التحصينات بقائدها الواهم الذي غاب
عن أنظار المصطفين على طرف الوادي وصاح صائح أن ادركوا الشيخ
فقد ابتلعه السيل .
حبس المشهد الرجال في مكانهم وتعالى " صعيق" النساء وبكاء األطفال
و"حالية" تراقب بصمت محتضنة طفليها وتقلب طرفها ما بين السماء
.خيم الحزن على بيوت القرية وتناقل ساكنيها قصة رحيل شيخهم منقسمين
ما بين حزين لرحيله وبين سعيد، و قبل الغروب عاد الرجال يحملون
على اكتافهم الشيخ الراحل الذي ووجد
جثمانه في "زهب " يعود لرجل من القرية المجاورة.
امتدح البعض شجاعة الشيخ والبعض الاخر يقول بأن الله أمهل ولم يهمل.
حالية بائعة الدجر مؤمنة بعدل رب السماء وأن لله في ذلك حكمة.
ابن قشرة " الهبل امتطى صهوة عصاته وانطلق يردد
ناعيا ً الشيخ :
امسيل شل شيخنا
وشيخنا قد شلنا
امسيل شل شيخنا
وشيخنا قد شلنا
الحقول بعد سيلها اخضرت كما لم تخضر من قبل وتوافد "المنجعون" من
كل صوب على وادي القرية و"زهب" حالية فاض دجره وبلغ صيتها
" حمد شامي " اعترف امام جامع القرية بما شهد به للشيخ الراحل زوراً
وعاهده على أن يسعى اعادة ما شهد به لاهله
.
توالت السنوات والقرية تنعم بعيشها الرغيد.
اليتيمين بلغا مبلغ الرجال واشتد عودهما، وأصبحا ممن يشاد و يشتد بهم ..
دب العجز .. في أطرا ف "حالية" واعتلى جسدها الالم وهد قواها
ً الوجع ، حتى رحلت
تاركة اليقين بعدالة رب السماء في نفوس أهالي القرية،
وشابين امتطيا عزيمة الرجال إلكمال رحلتهما بإيمان مطلق زرعته أمهما ..
( من اجمل ما قرات )
انتظروني مع قصة اخرى ..
تحياتي لكم