موظفات قزاز.. فصلن لأنهن نساء
------------------------
كنتُ قبل أربعة أشهر أو أكثر قد كتبتُ مقالاً بعنوان (فصلت لأنها امرأة) يدور حول عدد من الموظفات في شركة (أراسكو) في محافظة الخرج كن قد فصلن من أعمالهن بسبب غير مقنع، وقد كان السبب في رأيي أنه موقف من عمل المرأة دون أي عامل آخر، أو هو بالأصح موقف من المرأة ذاتها بما أنها صاحبة الإغواء والفتنة في عقول آلاف من الناس، وبما أنها مصدر خلل المجتمع بكامله في حال خرجت من بيتها إلى السوق أو العمل أو حتى إلى المسجد في ذهن من يريد لها القعود كسجينة في بيتها بسبب العقلية الذكورية الصارمة التي لا تعرف إلا الرجل سيد المواقف كلها. ألم يكن في رأي بعض حكمائنا أن المرأة تخرج مرتين من بيتها إلى بيت زوجها، ومن بيت زوجها إلى القبر وكأن المرأة تعيش في سجن أبدي.
تعود القضية مرة أخرى بوجه آخر مع عدد ليس بالبسيط من موظفات (قزاز) في جدة فصلن من أعمالهن من غير أي عذر يمكن الاستناد إليه إلا بسبب أنهن مختلطات في أعمالهن مع الرجال وكأن المرأة في كل تاريخها لم تختلط مع الرجل ولم تعرف شكله أو هيئته التي خلقها الله عليه إلا من خلال شكل زوجها وهيئته.
في الخبر القائم حول هؤلاء الموظفات كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جدة هي المسؤولة التي يشار إليها ببنان الاتهام، في حين أن بعض المسؤولين في الهيئة ينكرون تحمل هذه المسؤولية في فصل حوالي التسع والستين موظفة، وهو رقم ليس من السهل تجاوزه في قضية كهذه، مما يجعل أي مسؤول في فصلهن سواء من رجال الهيئة أو غيرهم، ومهما كان حجمه متورطاً بشكل كبير في التعامل مع القرار الوزاري لأنه تعامل معه بما يناقضه وبشكل تعسفي إلا إذا كان لديه المبرر في هذا الأمر، ومبرر قوي جداً، ولا أعتقد أن فصل مثل هذا العدد يمكن أن يكون له مبرر إلا المبرر الأخلاقي ولذلك فهذا ما يحاول البعض وصمهن بذلك، هذا إذا اتفقنا أن كشف الوجه، كان جرماً أخلاقياً، وفي الفقه الإسلامي أن مثل كشف الوجه كان من الأمور الخلافية حتى عند الإمام أحمد في قولين له في هذه المسألة بالذات، ومع ذلك فأنا أجزم أن تسعاً وستين موظفة لا يمكن أن يصدر منهن خللاً أخلاقياً مهما كان حجمه إلا باتفاق الجميع، وهذا من رابع المستحيلات كما يقولون، ولو أن البعض منهن وافقن على ذلك فإن العدد الباقي منهن لا يمكن أن يوافقن عليه مهما كان إغراء الموافقة، خاصة إذا عرفنا أن منهن من كان لها شهر واحد فقط في وظيفتها التي فصلت منها، وأن البعض الآخر كانت هذه الوظيفة هي مصدر الدخل الوحيد لها والتي تعيل أطفالاً قصراً منها.
هذه القضية تثير عددا من القضايا الفكرية والإدارية التي لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال كلما حاولنا فتح قضية عمل المرأة، وهي القضية التي لم يهدأ حولها الجدل ولم تهدأ حولها زوبعة النقد خاصة من الجهة التقليدية التي دائما ما تحاول عرقلة كثير من الجهود الفكرية أو الجهود المدنية التي يقوم بها عدد من الوطنيين في هذه البلاد نتيجة العقل التقليدي الذي لا يرى إلا نفسه حاميا حمى الإسلام والذائد عنه من قوى التغريب كما هي طريقة البعض في كيل التهم، وهذه القضايا في رأيي هي ما يلي:
1ـ هل الاختلاط من الجرائم الأخلاقية في الإسلام والتي يمكن للبعض أن يجعلها تهمة تنال من بعض الناس أو تصل بهم إلى قطع الأرزاق والمعيشة الوحيدة لديهم..؟، وإذا اتفقنا على ذلك (وهذا مستحيل طبعاً)، فهل كانت هؤلاء النسوة مختلطات بالرجال فعلاً..؟، أي إنهن كن يمارسن العمل بحرية تامة مع الرجل، وإذا كان الحال كذلك (وهذا فيه شك كما هو تصريح مسؤول قزاز بذاته)، فهل يمكن لنا أن نتهم كل الممرضات في التاريخ كاملاً واللاتي كن يطببن المسلمين في المعارك والفتوحات الإسلامية كما يذكر لنا التاريخ، وهل يمكن لنا بعد ذلك أن نتهم كل الممرضات في مستشفياتنا واللاتي بالضرورة سوف يختلطن مع الرجل إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.. ثم هل يمكن لنا كذلك أن نتهم جميع نسائنا بـ"جريمة" الاختلاط كونهن يتعاملن مع الرجال في الأسواق والأماكن العامة. إذا نحن فعلنا ذلك فهل ستبقى امرأة من نسائنا الفاضلات لم تطلها يد الاتهام. أسأل الله ألا نفكر في ذلك، إذ حينها سوف تكون المصائب، وهذا ما سوف يكون دليلاً على مرضنا الاجتماعي ووساوسنا القهرية.
2ـ هل كشف الوجه جريمة أخلاقية يعاقب عليها الإسلام أو القانون..؟. طبعاً لا وفي الفقه الإسلامي ما يمكن الاستناد به على خلافية ذلك وهذا ما ذكرناه.. لكن لماذا يجعلها البعض جريمة يحاولون من خلالها الإساءة إلى عدد من الناس ويكون ذلك قدحا في الأخلاق وفي الشرف. هذا ما يفكر فيه بعض الناس ثم هل يمكن أن نعتبر ذلك إسلاما حقيقياً أم إنه عادة اعتاد عليها الناس بحيث لا يتصور من كانت أمه تكشف عن غير المحارم أن ذلك محرما في الإسلام وإلا جعلنا كل نساء المسلمين في العالم مقدوحا في شرفهن بما أنهن لا يرى فقهاؤهن تغطية الوجه وهذا مرض اجتماعي آخر ووساوس قهرية أيضا لا توجد إلا فينا.
3ـ من هو المسؤول من الناحية القانونية أو الإدارية عن فصل تسع وستين موظفة..؟ هل هي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما أنها جهة حكومية معترف بها؛ أم إن المسؤول هو وزارة العمل. من المعروف أنها طبعاً وزارة العمل وهي الجهة الوحيدة المخولة للبت في مثل هذه القرارات في حال خلل معين أو ملاحظات على المؤسسة أو على أي موظفة وفي نص قرار مجلس الوزراء: ".. إنها الجهة الوحيدة صاحبة الاختصاص في تطبيق ضوابط تشغيل النساء كأجيرات لدى أصحاب العمل باعتبارها الجهة المعنية بتطبيق نظام العمل الذي تضمن في فصله العاشر الأحكام المنظمة لذلك ومنها ما يتعلق بعدم اختلاطهن بالرجال في أماكن العمل وما يتبعها من مرافق وغيرها وعلى الجهات الحكومية الأخرى التي يكون لديها أي ملحوظات تتعلق بتشغيل النساء لدى أي منشأة أهلية إبلاغ وزارة العمل للتعامل معها وفقاً للأحكام والضوابط المنظمة لذلك.." ومن هنا نضع علامة استفهام كبيرة حول بعض تصرفات رجال الهيئة حين يعتقدون أن لديهم صلاحية مطلقة في التصرف بما يرونه خطأً أو سلوكاً أخلاقيا مخالفاً لمقتضى الدين الإسلامي. إنه من اللازم أن تكون لوائح هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقننة بشكل واضح بما أنها جهة حكومية، مما لا يجعل للبعض التصرف بشكل فردي ومطلق، وإذا عرفنا أن الشريعة الإسلامية شريعة واسعة المنهج يكون من الضروري إفهام الكثيرين أنها كذلك بنص قانوني مكتوب يمكن الاستناد إليه في حال الخلاف في قضية محددة و إلا بقي الحال كما هو الآن. و قبل كل شيء لابد أن تعود هؤلاء النسوة إلى أعمالهن بأسرع وقت والتحقيق في هذه القضية حتى لا تتكرر مثل هذه التصرفات.
-----------------
شتيوي الغيثي*
* كاتب سعودي
==========
المصدر
جريــدة الوطن