{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } أي : بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد ، عليهما [الصلاة و] (7) والسلام (8) فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يَتَجَلي له ما كان جاهلا به ، فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له ، إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى في [أول] (1) هذه السورة : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ] } الآية [النساء : 18] وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأَْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بَاللهِ وَحْدَهُ[وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] (2) } الآيتين (3) [غافر : 84 ، 85] وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد (4) هذا القول ، حيث قال : ولو كان المراد بهذه الآية هذا ، لكان كل من آمن بمحمد أو بالمسيح ، ممن كفر بهما - يكون على دينهما ، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه ؛ لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته. فهذا ليس بجيد ؛ إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلمًا ، ألا ترى إلى قول ابن عباس : ولو تردى من شاهق أو ضُرب بسيف أو افترسه سَبُع ، فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى" فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافع ، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه ، والله أعلم.
ومن تأهل هذا جيدًا وأمعن النظر ، اتضح له أن هذا ، وإن كان هو الواقع ، لكن لا يلزم منه أن يكون المرادُ بهذه الآية هذا ، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى ، عليه السلام ، وبقاء حياته في السماء ، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ؛ ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادّت وتعاكست وتناقضت ، وخلت عن الحق ، ففرّط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى : تَنَقَّصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم ، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه ، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية ، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا ، وتنزه وتَقَدّس لا إله إلا هو.
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة ، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له :
قال البخاري ، رحمه الله ، في كتاب ذكر الأنبياء ، من صحيحه المتلقى بالقبول : (نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا (5) من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا }
وكذا رواه مسلم عن الحسن (6) الحُلْواني وعبد بن حميد كلاهما ، عن يعقوب ، به (7) وأخرجه البخاري ومسلم ، أيضًا ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به (8) وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به (9) ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوشك أن يكون فيكم ابنُ مريم حكمًا عدلا
يقتل الدجال ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين". قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ } موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات (1).