تهيؤ
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
فكرت أن أصنع شيئا أجذب به اهتمامه دون حاجة للكلام بيننا..
للقاصة باشا مباركي

صامتا أمامي ينظر إلى داخله .... وجه خال من التعابير... وظهره مستند على مقعد قريب منه .. كنت أرقبه بصمت وكان بين فينة وأخرى يلملم أطرافه... يجمعها وينشرها ..ثم يعود مستنداً على المقعد الخشبي.
استغربت من هذا السكون .. ما أعرفه عنه أنه نادراً ماتطبق شفتاه على بعضهما... وففضوله يملأ كل ردهات الأزمنة.
جلست أمامه وشوارع الليل الهادئة تصافحني كلما نظرت إليها من نافذة على يميني .. روائح المطاعم تحت منزلنا تغازل الأنوف ...صيحات المشترين في أول الليل تداعب سمعي .. وأصوات متفرقة ترتفع بالغناء في محاولة بائسة لمعاندة الصمت ...يستمر بعضها بإصرار ومكابرة غير أنه ما يلبث ان يهزم ويخبو.
عدت إلى نقطة اهتمامي مازال متوسدا صمته .. عيناه الذابلتان...المتعبتان تشبه بندولاً ساعة تنتقل يمنة ويسرة ثم تعود لتتركز في المنتصف ... أنا جالسة في المنتصف أيضاً .
ربما لاحظ شيئا غريبا فيَّ لم يرق له .. اعتدلت... اعتدلت بسرعة ونظرت إلى حيث يركز عينيه وجدت شعري كما هو دائماً فوضوي من الأمام نصفه الآخر متمرد إلى الوراء , والبقية خصل ثائرة تصطف في المقدمة في عناد ابدي من شدة وقوفها متراصة.
عدت أتأمل هيئتي ...قدماي بكامل هيئتهما لا شيء يبدو لي غير طبيعي .. نهضت من مكاني لأبحث عن بقعة ربما يتلاشى منها برد العواطف ربما تنبض بمعنى الحياة و يحيط بها الدفء أجمل من هذه الظلمة..
..
فكرت أن أصنع شيئا أجذب به اهتمامه دون حاجة للكلام بيننا.. وجدت الحل أن أصنع قهوة أصب فيها كل المرارة ربما تلسعه ويفوق من تحت هذا الغمام.
..
للأسف لم تقم القهوة بالمطلوب. بل جعلته أكثر برودا.. بات يحدق في الجدار المواجه له والمليء برسوم وأوهام وأمان مبهمة .. ازددت حنقا وغيظا في استــئثار الجدار باهتمامه وتعلق أنفاسه . ويتركني.
..
لم أيأس فكرت بكلام أمي التي دائما ما تطلق عليَّ المجنونة, ولهذا لم ترسل كل ملابسي حينما انتقلت إلى بيت زوجي, ترى بأنه سيعيدني إليها سريعاً. ومن المستحيل أن يطيق أحد هذياني الممزوج بالعناد.
لكني لم أفعل شيئا ومازلت في حالة سلام وتصالح. طلقات جنوني لم أصوبها بعد,الصمت والخواء كالمتاريس التي تمنعني.
كيف أمارس هواياتي الحمقاء في هذا الجو الخانق الضائعة منه الأحلام والآمال والطموحات .. تتداخل التواريخ والذكريات وتمتد عبر دقائق هذا الموقف الذي تتشكل فيه وشائج خفية أتجاوز بها حدود الزمن.
هبطت إلى الأرض لأكون قريبة منه.. غيَّر وجهته وأخذ مجموعة من الأوراق يدون عليها أحلاماً زائفة وعوالم مليئة بالدفء والضوء والخوف.
غروري منعني أن اتحدث إليه أو أسأله عن سبب صمته وإلقاء كلماته في قعر وادٍ سحيق وقد ارتفعت من حوله جدران شاهقة تفصله عن الدنيا بكل مافيها ـ بما فيها أنا ـ
كان يتطلع حواليه ثم ترتد نظراته إلى الورق فقط.
نهض أخيرا من عالمه وأخذ يقلب نظره متأملا الكتابات التي صنعتها يده . فقد سجل أسماء وتواريخ في أزمان مختلفة , صنع شخصيات ذات عواطف بسيطة وساذجة ربما هم أبطاله الحقيقيون . مستحيل أن ينافسوا مكاني داخل قلبه بما سأحرقهم أنصب لهم المشانق وأعلقهم إن اكتشفت ذلك.
ترى مالذي دفعه لتسجيل شخصياته المتخيله؟ ألمجرد البوح أو لمجرد الهرب؟ ام ليقرأها آخرون .. فوضاه هذه تزيد من كبريائي و تجعلني لا أكترث به .. ولا أعيره أدنى اهتمام .
وجدت بجانبي علبة من المناديل الملونة ذات رائحة معقولة هي من بقايا هدايا أمي منذ أيام عرسي القريب .. أخذتها ورسمت على الأول منها طيورا وأغصانا مائلة وقلوبا مترعة باليأس ونزاعا شائكاً بين زهرتي الياسمين والقرنفل..وسماء تمطر بغزارة وعُـشا صامدا لا يسقط ولا ينطق.. ذاك هو وجه سيدي الماثل أمامي .
.. تناول من يدي لوحاتي البهيجة وحدّق فيها.. علم أخيرا أني أكرم منه رسمته في البداية كهيئة عش ولم أحاول أن أسلط عليه النسور لتسقطه .
كنت أستطيع أن أفعل ..لكني لم أفعل ابتسم لأول مرة وهو يراني أمامه أرسم بنهم - ولم يعد يغرنيي - وصول رائحة الطعمية الحارة لأنفي, لأنها حين تصل أنقض عليه ليذهب ويحضرها إلي استمريت في رسمي الصامت وكلما انهيت منديلا علقته على جانب سريري . لوحاتي تراصت فيما بينها... زاحمت الشرشف المتدلي من على ذاك السرير
نهضت من غفوتي المصطنعة .. وكأن أمي تحدثني أفيقي من جنونك , انهضي من سباتك متى سيكبر عقلك !!! متى..متى؟
رفعت رأسي بمعدة خاوية وذهن تغلفه غشاوة نوم لم يكتمل .. تأملت مليا... ترى أين ذهب من كان برفقتي . !!


المصدررررررر الاربعاء