مسلك آخر ، وهو : أن قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو غيره ، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو : (1) إما أن يكون نطيحا أو في حكمه ، أو منخنقا أو في حكمه ، وأيا ما كان فيجب تقديم [حكم] (2) هذه الآية على تلك لوجوه :
أحدها : أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد ، حيث يقول لعديّ بن حاتم : "وإن أصابه بعرضه (3) فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية ، فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد ، والنطيح ليس معتبرا ، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به ، وهو محظور عند كثير من العلماء.
الثاني : أن تلك الآية : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع ، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول ، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق ، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ..
المسلك الآخر : أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء ؛ لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات ، فلا تحل قياسا على الميتة.
المسلك الآخر : أن آية التحريم ، أعني قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إلى آخرها ، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص ، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة ، أعني قوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] } [ المائدة : 4 ] (4) فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك ، وشاهد ذلك قصة السهم ، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية ، وهو ما إذا خَزَفه المِعْرَاض فيكون حلالا ؛ لأنه من الطيبات ، وما دخل في حكم تلك الآية ، آية التحريم ، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل ؛ لأنه وقيذ ، فيكون أحد أفراد آية التحريم ، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء ، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا.
فإن قيل : فلم لا فَصَّل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال ، وإن لم يجرحه فهو حرام ؟
فالجواب : أن ذلك نادر ؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر ، وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ؛ فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم ؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال : "إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين (5) فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب ، حكي ذلك عن أبي هريرة ، وابن عباس. وبه قال الحسن ، والشعبي ، والنخَعي. وإليه ذهب
أبو حنيفة وصاحباه ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي في المشهور عنه. وروى ابن جرير في تفسيره عن علي ، وسعد ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعد ، وسلمان ، وأبو هريرة وابن عمر ، وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة. وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.