وقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى (3) لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناول ذلك ، والله غفور رحيم له ؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبَّان ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته (4) كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته" (5) لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد (6) من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة". (7)
ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على مهجته (8) التلف ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، و [قد] (9) يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير ، أو صيدًا (10) وهو محرم : هل يتناول الميتة ، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء ، أو ذلك الطعام ويضمن بدله ؟ على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام (11) وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا (12) بها المخمصة ، فمتى تحل (13) لنا بها الميتة ؟ فقال : "إذا لم تَصْطَبِحوا ، ولم تَغْتَبِقُوا ، ولم تَجتفئوا (14) بقْلا فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين. وكذا رواه ابن جرير ، عن عبد الأعلى بن واصل ، عن محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي به (15) لكن رواه بعضهم
عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد ، به (1) ومنهم من رواه عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن مرثد - أو أبي مرثد - عن أبي واقد ، به (2) ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسي بن يونس ، عن حسان ، عن رجل قد سمي له ، فذكره. ورواه أيضا عن هناد ، عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان ، مرسلا (3)
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عَوْن قال : وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة ، فقرأته عليه ، فكان فيه : "ويُجزى من الأضرار غَبُوق أو صبوح ".
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا هُشَيْم ، عن الخَصيب بن زيد التميمي (4) حدثنا الحسن ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [إلى] (5) متى يحل [لي] (6) الحرام ؟ قال : فقال : "إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن ، أو تجيء مِيرَتُهم ".
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته (7) ؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تَحِلُّ لك الطيبات ، وتَحْرُم عليك الخبائث (8) إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه". فقال الرجل : وما فَقْرِي الذي يحل لي ؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كنت ترجو نِتَاجًا ، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غِنًى ، تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئا ، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه". فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال [النبي] (9) صلى الله عليه وسلم : "إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام". (10)
ومعنى قوله : "ما لم تصطبحوا" : يعني به : الغداء ، "وما لم (11) تغتبقوا" : يعني به : العشاء ، "أو تختفئوا (12) بقلا (13) فشأنكم بها" [أي] (14) فكلوا منها. وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف - يعني قوله : "أو تختفئوا (15) [بقلا] (16) على أربعة أوجه : "تختفئوا" بالهمزة ، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء ، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] (17) وتحتفوا" بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا ذكره في التفسير.
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري (18) سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري ؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : "ما طعامكم ؟" قلنا : نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم : فَسَّرَه لي عقبة : قدح غُدوة ، وقدح عَشيَّة (1) قال : "ذَاكَ وأبي الجُوعُ". وأحل لهم الميتة على هذه (2) الحال.
تفرد به أبو داود (3) وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرَّمَق ، والله أعلم.
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا سماك ، عن جابر بن سَمُرَة ، أن رجلا نزل الحَرَّةَ ، ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقة لي ضَلَّت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فَنَفَقَتْ ، فقالت له امرأته : اسلخها حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله. فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : "هل عندك غنًى يُغْنِيك ؟" قال : لا. قال : " فكلوها". قال : فجاء صاحبها فأخبره (4) الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك.
تفرد به (5) وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع ، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.
وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } أي : [غير] (6) مُتَعَاطٍ لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الآية : 173 ].
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ؛ لأن الرخص لا تنال (7) بالمعاصي ، والله أعلم.