كان نابغة بني ذبيان تضرب له قبة من أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء؛ فدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى وقد أنشده شعره , وأنشدته الخنساء قصيدتها التى مطلعها :

" قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عُوّارُ ... أَم ذَرَفَت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ "

حتى انتهت إلى قولها:
وَإِنَّ صَخراً لَتَأتَمَّ الهُداةُ بِـهِ ... كَأَنَّهُ عَلَــمٌ فـي رَأســِهِ نــارُ
وَإِنَّ صَخراً لَمولاِنا وَسَيِّدُنا ... وَإِنَّ صَخراً إِذا نَشتو لَنَحّارُ


ومعنى البيتين أن صخرا إمام للناس يأتمون به ويهتدون بهديه , كأنه جبل على قمته نار مشتعلة فلا تخفى على أحد ( وهذا البيت صار مثلا بعد ذلك كما يقولون : فلان اشهر من نار على علم .. )
وتقول فى البيت الثانى أن صخرا مولاهم ويدهم , وأنه كريم فمتى يأتى علي الناس الشتاء ببرودته وصقيعه , يكثر من نحروذبح الذبائح لضيوفه


فقال: لولا أن أبا بصيرٍ – يقصد الأعشى وهو شاعر مشهور من أصحاب المعلقات - أنشدني قبلك لقلت: إنك أشعر الناس !!

فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها.
قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلمَعنَ بِالضُحى ... وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجـدَةٍ دَما
وَلَدنا بَني العَنقاءِ وَاِبني مُحَـــرَّقٍ ... فَأَكرِم بِنا خالاً وَأَكرِم بِذا اِبنَما


ومعنى البيتين أن حسان رضى الله عنه يفخر بقومه وكرمهم وأن لهم جفان ضخمة أى أوعية ضخمة للطعام , تنصب فى الضحى ليأكل منها الناس , وفى نفس الوقت فهم شجعان واسيافهم تقطر دما من كثرة نجدة الناس , ثم يفخر بأنهم أخوال لهذين الحيين ( بنى العنقاء ) و ( ابنى محرق ) فأكرم بهم أخوالا وأكرم بهم ابناء
وكلمة ( ابنما ) تعنى ابن , ويجوز زيادة ( ما ) فيها .


فقال: إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وفي رواية أخرى: فقال له: إنك قلت " الجفنات " فقللت العدد ولو قلت " الجفان " لكان أكثر. وقلت " يلمعن في الضحى " ولو قلت " يبرقن بالدجى ". لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت: " يقطرن من نجدة دماً " فدللت على قلة القتل ولو قلت " يجرين " لكان أكثر لانصباب الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. فقام حسان منكسراً منقطعاً. .. ]

طبعا نقد النابغة واضح وهو ينبه إلى أن حسان لم يوفق فى إختيار الألفاظ المناسبة التى تدل على معانى الكثرة والمبالغة , كما أنه نقده فى معنى من المعانى وهو أنه فخر بأبنائه ولم يفخر بآبائه , والعادة عند العرب أن يفخر المرء بآبائه , ويترك لأولاده الفخر به .
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي