قــــعــــــب صــيــــــــــدة
على امتداد زمنها الحالم المحلق في فضاء ليلها الساكن الذي مضى نصفه إلا قليلا ،يعزف إيقاعه
العذب هاتفا بها لتشاركه الغناء
. فكانت خطواتها الوئيدةتردد معه لحن عمرها الوردي المورق خضرة الشذي زهرا المرتوي عروقا ،من
حيث يفيض كل ليلة فيسقي حدائق قلبها الرقيق حنانا ، نهرها الذي لا يبعد عن خطاها إلا لحظة
تسجيه ليعود إليها أكثرعذوبة وصفاء.
تتحرك في أرجاء غرفتهاالجميلة التي كساها السكون غلالة وقار حين خفتت أضواؤها الصاخبة . إلا
من خيوط نور فضية تسللت إليها
عنوة كأنها على موعد معهاهذه الليلة من قمر اتخذ من عرشه مكانا عليا فمنحها من وهج تاجه
قيثارة السمو لتعزف أوتارهاأغنية الأمس
المخبوء في أعماق وجدانهايستخف النسيم الذي راح يعبث بستائر النافذتين المتقابلة بإتقان .ليرقص على
نظرت إليه وقد أخذته سنةحالمة انسدلت له أجفان حدقتيه المشعة بنور حبه لها ، وارتخى لهجسده
المنهك الا منها فهي القوتالذي يمنحه
تبتسم وهي تنظر اليه وتهزكتفيها محدثة نفسها " آه كم أحبك ... "
تنساب على أطراف أصابعهاهونا وتمد كفها الغض لتدثره بحنانها وعطفها قبل لحافه .
وتعود أدراجها صوب الشرفةالمطلة على فضاء فسيح أضفى عليه الليل حلة التأمل وكساه البدربردة
تستقبل موكب نشيده القادم من هناك تلوذ بالكرسي الخشبي القابع على الشرفة وتمنح طرفها هذا
المدى الغارق في لجة ذكرياتها الوادعة .
فانقطاع التيار الكهربائي الطويل هذه الليلة أسدى جميلا لن تنساه . حين بعث إليها بريد أمسها طرود ذكرياتها
العذبة . فراحت تشرع صحفها
المخبوؤة في صندوق زمنهاالباقي هنا بين يديه . كان وجدانها مشدود الحنين لدندنة زمن القعب
وموثقه الغليظ . وبراءة زنبيل الشرية
أبحرت بزورق عينيها تجدف فينهر ليلها القادم من زمن القعب ليحتفل معها بميلاد حبها عنده كما
يسميه هو كلما دثرهما الليل بوشاحه .
سحر الجمال الذي منحها الله أخذت منه عيناها النصيب الأوفر . فهي حورية القرية .
صيدة حورية القرية لقب أطلقته عليها معلمتها السورية دلال . تشكل في ذاكرتها هذا اللقب الجميل
حين كانت تدل به على أترابها .
وكم كانت تخجلها تلك المعلمةحين تمازحها بوصف عينيها وتختم ذلك الوصف " و لك تأ برني عيونك
وقد أدركت مصداقية معلمتها بجمال عينيها حين ضمها رواق الحب المقدس به . فكلما نظر الى عينيها قال
واحات الخيال وتسرح بي في عوالم الوجد يا صيدة " ابتسمت لهذا الخاطر الذي تغلغل الى أعماق
شعورها فأخذ بمجامع أنوثتها لتشعر
كل الأصوات الغائبة عنهاانبعثت هذه الليلة وخلعت رداء سباتها الطويل وأقبلت تزفها بشائر الحب من
زمن القعب الذي أهدى لها قلبه
فملكت لبه وملك شغاف قلبها .
لم يكن بعيدا عن احتفالهاحين كان يخالسها نظراته من خلف دثاره . بينما تسرح هي بخيالها مع الليل
تسلل من فراشه لتحس دفءأنفاسه حيالها . تبتسم في وجهه . مابك ؟
لاشيء ياصيدة ... أفسدت عليكخلوتك ؟
ويحك .. ومنذ متى تطيب لي الخلوة إلا معك ؟
شرخت ضحكته السكون حينأجابها ..." أقصد لحظات الخلوة بنفسك متأملة ...
حبيبي حتى تأملاتي تبقى هباءاذا لم تكن أنت مبعثها ... الليلة أنت فارس هذه اللحظة ... فهمت ..!
ويل لي ... صيدة ووو صيدةأمقعب ياصيدة ... " وياله من قعب كان ميلاد سعادتي الغامرة ..
حين نثرتي يا صيدة بذرة الحبفي صحراء عاطفتي فكانت جنة وارفة الظلال ...!
تصدق أني أحبك قبل ليلة القعب بسنين .. طبعا لاتذكر ..!
ذكريني ... فاني أحب أنتكوني أنت ذاكرتي ...!
تذكر ذلك الأصيل وأنا صبيةفي الصف السادس .. حين كنت أحمل زنبيلا صغيرا فيه حب ذرة .. ..
صيدة ذلك الأصيل الجميل حيث وقع منك الزنبيل وانتثر الحب وأجهشت باكية ..!
نعم ياقدري الجميل لقد مددت يدك حينئذ الى جبيني ومررت أصابعك على وجنتي تمسح دمعي ...
وقلت : عيناك زورق فرح ..!
وانتزعت من فوق رأسي طرحتي وجمعت الحب والتراب وأمسكت بطرف وأنت بطرف آخر من الطرحة وذهبنا
التراب عن الحب .. لقد غادرت وغادر قلبي معك ...! وما ليلة القعب الا موثق حبي لك وليس ميلاده !
كانت أمي تلك الليلة على موعد مع الجارات لمساعدة العجوز جمعة في وظينها .. وتأخرت أمي
للحلب ... كنت ليلتها تتلوقرآنا وكان
صوتك حنونا .. وأخذت أمي سمتها تسير أمامي وأنا بعدها أحمل القعب للحليب ... وبعد الحليب
أحسست بخدر يسري في جسدي فترنح
القعب يبن يدي .. فصاحت أمي " أمقعب ياصيدة أمقعب ووو بتي .. فجاء صوتك ما الأمر ... فوقعت غائبة
فحملتني بين ذراعيك ... وتكرر المشهد حيث انتزعت طرحتي لتربط ساقي وتجرح قدمي ليراق سم
وحين ذهبت أمي لجلب الملح ... نظرت إلي وقلت نفسي أقول لك كلمة ... فقلت لك أعرفها ولك عندي
صيدة هاهو الليل يحتفل بنا ... ياصيدة
... حبيبي تسمع الأذان ... نعم ... المؤذن بلا مكبر .. كل شيء الليلة قادم من هناك من زمن
أبو هاشم عبده الصميلي 5/3/1432هــ