وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، وَدَهْثَم (6) بن قُرَّان العُكلي ضعيف أعرابي ، ليس حديثه مما يحتج به ، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة. (7)
ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تَنْدَمِل جراحة المجني عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه ، فلا شيء له ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، فذكر حديثًا ، قال ابن إسحاق : وذكر عَمْرو (8) بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني. فقال صلى الله عليه وسلم : "لا تعجل حتى يبرأ جرحك". قال : فأبى الرجل إلا أن يستقيد ، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، قال : فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه ، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، عرجت وبرأ صاحبي. فقال : "قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك". ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. تفرد به أحمد. (9)
مسألة :
فلو اقتص المجني عليه من الجاني ، فمات من القصاص ، فلا شيء عليه عند مالك ، والشافعي ،
وأحمد بن حنبل ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، والحارث العُكْلِي ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن أبي سليمان ، والزهري ، والثوري : تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود ، وإبراهيم النَّخعي ، والحكم بن عتَيبة (1) وعثمان البَتِّيّ : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله.
وقوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } يقول : فمن عفا عنه ، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب ، وأجر للطالب.
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : كفارة للجارح ، وأجر المجروح (2) على الله ، عز وجل. رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ، ومجاهد ، وإبراهيم - في أحد قوليه - وعامر الشعبي ، وجابر بن زيد - نحو ذلك الوجه الثاني ، ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا حماد بن زاذان ، حدثنا حرمي - يعني ابن عمارة - حدثنا شعبة ، عن عمارة - يعني ابن أبي حفصة - عن رجل ، عن جابر بن عبد الله ، في قول الله ، عز وجل (3) { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : للمجروح. وروى عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه - وأبي إسحاق الهمداني ، نحو ذلك.
وروى ابن جرير ، عن عامر الشعبي وقتادة ، مثله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن قيس - يعني بن مسلم - قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث ، عن الهيثم أبي (4) العريان النخعي قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي ، فسألته عن قول الله [عز وجل] (5) { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تَصدق به.
وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم. وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة.
وقال ابن مَرْدُويَه : حدثني محمد بن علي ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المُجَاشِعي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري ، حدثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي ، حدثنا مُعلَّى - يعني ابن هلال (6) - أنه سمع أبان بن تغلب ، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو - وعن أبان بن تغلب ، عن الشعبي ، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : هو الذي تكسر سنه ، أو تقطع يده ، أو يقطع الشيء (7) منه ، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك ، وقال فَيُحَطّ عنه قدر خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن
كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك. (1)
ثم قال (2) ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفَر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية ، فلما ألح عليه الرجل قال : شأنك وصاحبك. قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة ، وحط عنه به خطيئة". فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال.
هكذا رواه ابن جرير (3) ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا وَكِيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفر قال : كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار ، فاستعدى عليه معاوية ، فقال القرشيُّ : إن هذا دق سنّي ؟ قال معاوية : إنا سنرضيه. فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يصاب بشيء في (4) جسده ، فيتصدق به ، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة". فقال الأنصاري : فإني ، يعني : قد عفوت.
وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك ، وابن ماجه من حديث وَكِيع ، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق ، به (5) ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السَّفَر سماعًا من أبي الدرداء.
وقال [أبو بكر] (6) بن مردويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان ، عن عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت ؛ أن رجلا هَتَم فمه رجل ، على عهد معاوية ، رضي الله عنه ، فأعْطِي دية ، فأبى إلا أن يقتص ، فأعطي ديتين ، فأبى ، فأعطي ثلاثًا ، فأبى ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". (8)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، عن المغيرة ، عن الشعبي ؛ أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من رجل يجرح من (9) جسده جراحة ، فيتصدق
بها ، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به.
ورواه النسائي ، عن علي بن حُجْر ، عن جرير بن عبد الحميد ، ورواه ابن جرير ، عن محمود بن خِدَاش ، عن هُشَيْم ، كلاهما عن المغيرة ، به. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن مجالد ، عن عامر ، عن المحرَّر بن أبي هريرة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أصيب بشيء من جسده ، فتركه لله ، كان كفارة له". (2)
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كُفْر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق.