وقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم ، وذلك [على الله] (4) يسير.
ثم قال (5) { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عما كان منكم قبل ذلك ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
وقيل : المراد بقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق (6) وقد ورد في الحديث : "أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته" (7) ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها. (8)
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : ما لم يذكره (1) في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ذروني ما تُرِكْتُم ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم". (2)
وفي الحديث الصحيح أيضًا : " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها ، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها ، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها". (3)
ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي : قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم ، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي : بسببها ، أي : بينت لهم ولم (4) ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد.
قال ، العَوْفِي ، عن ابن عباس قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال : "يا قوم كتب عليكم الحج". فقام (5) رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأغْضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فقال : "والذي نفسي بيده لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما (6) استطعتم ، وإذًا لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه". فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله عن ذلك وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ (7) ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه (8) رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } قال : لما نزلت آية الحج ، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : "يا أيها الناس ، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا". فقالوا : يا رسول الله ، أعامًا واحدًا أم كل عام ؟ فقال : "لا بل عامًا واحدًا ، ولو قلت : كل عام لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم". ثم قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } إلى قوله : { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } (9) رواه ابن جرير.
وقال خَصِيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } قال : هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك (10) "ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا" ، قال : وأما عكرمة فقال : إنهم كانوا يسألونه عن الآيات ، فنهوا عن ذلك. ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } رواه ابن جرير.
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
يعني عكرمة رحمه الله : أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات ، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا ، وأن يجعل لهم الصَّفَا ذهبا وغير ذلك ، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [الأسراء : 59] وقال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام : 109 - 111].
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) }