وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [العوفي ، عن] (2) ابن عباس : يعني صلاة العصر. وكذا قال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وعِكْرِمة ، ومحمد بن سيرين. وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما.
والمقصود : أن يقام هذان الشاهدان (3) بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي : فيحلفان (4) بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : إن ظهرت لكم منهما ريبة ، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا. قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي : ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه ، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها ، وتعظيمًا لأمرها.
وقرأ بعضهم : "ولا نكتم شهادة آلله" مجرورًا على القسم. رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي.
وحَكَي عن بعضهم أنه قرأ : "ولا نَكْتُمُ شهادةً الله" ، والقراءة الأولى هي المشهورة.
{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي : إن فعلنا شيئًا من ذلك ، من تحريف الشهادة ، أو تبديلها ، أو تغييرها (1) أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي : فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين ، أنهما خانا أو غَلا شيئًا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور : "اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان". ورُوي عن علي ، وأُبيّ ، والحسن البصري أنهم قرؤوها : { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ }.
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي ، عن سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2)
وقرأ بعضهم ، ومنهم ابن عباس : "من الذين استحق عليهم الأوَّلِين". وقرأ الحسن : "من الذين استحق عليهم الأوَّلان" ، حكاه ابنُ جرير.
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك : أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن كنا قد كذبنا عليهما.
وهذا التحليف للورثة ، والرجوع إلى قولهما والحالة هذه ، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لَوْث (3) في جانب القاتل ، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم ، كما هو مقرر في باب "القسامة" من الأحكام.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبي النضر ، عن باذان - يعني : أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب - عن ابن عباس ، عن تميم الداري في هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } قال : بَرئ الناس منها غيري وغير عَديّ بن بَدَّاء. وكانا (4) نصرانيين ، يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم ، يقال له : بُدَيْل بن أبي مريم ، بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك ، وهو عُظْم (5) تجارته. فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله - قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام ، فبعناه
بألف درهم ، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بدّاء. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما د فع إلينا غيره - قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت (1) إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا إليه (2) أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى قوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا ، فنزعتْ الخمسمائة من عَدي بن بَدَّاء.
وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحَرَّاني ، عن محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، به فذكره (3) - وعنده : فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } إلى قوله : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر ، فحلفا. فَنزعَتْ الخمسمائة من عدي بن بَدَّاء.
ثم قال : هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح ، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، وقد تركه أهل العلم بالحديث ، وهو صاحب التفسير ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، ثم قال : ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ ، وقد رُوي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.