وقال وهب بن مُنَبِّه : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات ، وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير : أنزل عليها كل شيء إلا اللحم.
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن زاذان ومَيْسَرَة ، وجرير ، عن عطاء ، عن ميسرة
قال : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم.
وعن عكرمة : كان خبز المائدة من الأرز. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا جعفر بن علي فيما كتب إليّ ، حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْس ، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مِرْدَاس العبدري - مولى بني عبد الدار - عن إبراهيم بن عمر ، عن وهب بن منبه ، عن أبي عثمان النَّهْدِي ، عن سلمان الخير ؛ أنه قال : لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة ، كره ذلك جدا وقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بَوَارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك قالوا : { نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } الآية.
فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعًا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال (1) وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله فقال : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } فأنزل الله عليهم سُفْرَة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم ، وعيسى يبكي خوفًا للشروط التي أتخذها الله عليهم - فيها : أنه يعذب (2) من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين - وهو يدعو الله من مكانه ويقول : اللهم اجعلها رحمة ، إلهي لا تجعلها عذابًا ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شَكَّارين ، إلهي أعوذ بك أن تكون (3) أنزلتها غضبًا وجزاء ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة.
فما زال يدعو حتى استقرت السُّفْرة بين يدي عيسى ، والحواريين وأصحابه حوله ، يَجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخَرَّ عيسى والحواريون لله سجدًا شكرًا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا (4) وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة ، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا أورثهم كمدًا وغمًا ، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى. والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطى. قال عيسى : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه ؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا. فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك ، وأحقنا
بالكشف عنها. فقام عيسى ، عليه السلام ، واستأنف وضوءًا جديدًا ، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا. ثم انصرف فجلس (1) إلى السفرة وتناول المنديل ، وقال : "باسم الله خير الرازقين" ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها سمكة (2) ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر ثمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات.
فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى : يا روح الله وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون : وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصِّدِّيقة. فقال عيسى ، عليه السلام : ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية (3) القاهرة ، فقال له : كن. فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم باسم الله (4) واحمدوا عليه ربكم يُمدكم منه ويَزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر.
فقالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب أن تُرينا آية في هذه الآية. فقال عيسى : سبحان (5) الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في (6) هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى ، عليه السلام ، على السمكة ، فقال : يا سمكة ، عودي بإذن الله حية كما كنت. فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية ، تَلَمَّظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلما رأى عيسى ذلك منهم قال : ما لكم تسألون الآية ، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة ، عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.
فقالوا لعيسى : كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ، ثم نحن بعد فقال عيسى : معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم (7) منها ، خافوا أن يكون نزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً ، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم ، فيكون (8) مَهْنَؤُها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله ، واختموه بحمد الله ، ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء ، لم ينتقص منها شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون ،
فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل زَمِنٍ أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء صِحَاحًا حتى خرجوا من الدنيا.
وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة ، سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا : الأغنياء والفقراء ، والصغار (1) والكبار ، والأصحاء والمرضى ، يركب بعضهم بعضًا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب ، تنزل يومًا ولا تنزل يومًا. فلبثوا في ذلك (2) أربعين يومًا ، تنزل عليهم غِبًّا عند ارتفاع الضُحَى (3) فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم. (4) بإذن الله إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.
قال : فأوحى الله إلى نبيه عيسى ، عليه السلام ، أن اجعل رزقي المائدة (5) لليتامى والفقراء والزَّمنَى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس ، وغَمطُوا ذلك ، حتى شَكُّوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين (6) حتى قالوا لعيسى : أخبرنا عن المائدة ، ونزولها من السماء أحق ، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير ؟ فقال عيسى ، عليه السلام : هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقًا ، وأراكم فيها (7) الآيات والعبَر كذَّبْتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.