[b][center]إذا نظرنا في هذه الأرض.. فسنرى فيها القمم الشامخة.. والفيافي الواسعة 00والوديان السحيقة ..ونرى أيضا النسور التي تحلق في السماء ..وتعانق الغيوم ..وتزاحم النجوم 00فى المقابل نرى من يزحف في بطون الأودية , أو يدفن رأسه في التراب كالنعام 00واذا نظرت في الحياة.. فسترى قيما عالية.. وأخلاقا رفيعة00 وفى المقابل.. ترى سفا سف دنيئة.. وقيما وضيعة ..والناس كالطيور.. منهم من يحلق هنا وهناك.. ومنهم من يلتصق بهذه أو تلك
قلبي يحدثني ألا يليق به *** رضا بجهد ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفس عز مطلبها *** أو طار طائر لب في مراقيه
كالنسر لاحا جب للشمس يحرقه *** ولا الصواعق والأرواح تفنيه
ليس الطموح إلى العلياء من سفه *** ولا السمو إلى حق بمكروه
إن لم أنل منه ما أروى الغليل به *** قد يحمد المرء ماء ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عيشهم *** موت فان هدوء القلب يرديه
يا قلب يهنيك نبع كله حرق *** إلى الغرائب مما عز ساميه
قال الإمام ابن الجو زى رحمه الله : وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل.. ولا تقنع بالدون ..فقد قال الشاعر
ولم أر في عيوبا الناس شيئا *** كنقص القادرين على التمام
من هم سكان القمم ..؟..هل هم بشر كسائر البشر...؟.. أم هم أناس يعيشون على كوكب آخر.. ومن جنس غير جنس البشر ..؟
إن سكان القمم معاشر الأحبة.. أناس مثلنا ..قريبون منا ..يعيشون على هذه الأرض بأجسامهم.. لكن هممهم وعزائمهم تحلق في السماء..سكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه ..ومن كل أمر إلا أتمه و أجمله ..وقد قيل قديما :قدر الرجل على قدر همته..فمن كان عالي الهمة ..كان عالي القدر..فبادر يا أخي الحبيب ولا يقعد بك العجز عن المكرمات.. وتأمل سير السابقين.. فإنها للهدى منارات.. حاول أن تكون من سكان القمم.. وابذل في تحصيله كل غال ورخيص.. ولا تدخر في ذلك أي نفيس..
لكل مجد مكافأة تليق بمقامه..فمن جد في العلم كوفىء باحتياج الناس إليه ..ومن جد في بذل المعروف كوفىء بثناء الناس عليه ..ومن كان همه ما يأكله كان قيمته ما يخرجه ..أين طلاب المعالي ؟..أين أصحاب الهمم العوالى ؟..أين من يحب الله صنيعهم ويبارك مسيرهم ؟ ..لا يسأل الكثير إلا من كان عقله يفكر بالكثير..ولا يطلب العظيم إلا من كانت نفسه تسمو لكل عظيم ..
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم
إن حياتك مغامرة كبيرة ..وان لحظات عمرك مباراة خطيرة ..فإياك أن تخرج منها خاسرا.. قبل أن تبنى لك بيتا في الجنة ...روى الإمام مسلم في صحيحه أن أبا بكر رضي الله عنه قال ..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر أنا ..قال فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا ..قال فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟ قال أبو بكر أنا ..قال فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟ قال أبو بكر أنا ..فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة )..وعند مسلم أيضا من حديث أبى بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( من انفق زوجين في سبيل الله نودي يا عبد الله هذا خير ..فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة .. ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ..ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ..ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ..فقال الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله ما على احد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة.. فهل يدعى احد من تلك الأبواب كلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم وأرجو أن تكون منهم ) ..قال الله تعالى ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21)
إن المكارم لا تحصل بالمنى *** لكن لها بالتضحيات سبيلا
فلكم سما للمجد من أجدادنا *** بطل أقام على السمو دليلا
فسل المعالي عن شجاعة خالد *** وسل المعارك هل رأته ذليلا
وسل الحضارة إن رأيت بهائها *** عمن أنار لهديها القنديلا
وسل المكارم والمعالي هل رأت *** من بعدهم في ذا الزمان مثيلا
هذى المكارم عندهم كبداية *** لسلوك درب ما يزال طويلا
في الأرض مجدهم ولكن قلبهم *** لجنة الفردوس رام رحيلا
وخذ المكارم لا تخف أعبائها *** عبء المكارم لا يكون ثقيلا
عن أبى ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) ..رواه مسلم .. روى أن أعرابيا سال أناسا من أهل البصرة : من سيد القوم في بلدكم ؟ فقالوا الحسن أي البصري ..فقال بم سادهم ؟ قالو ا..احتاج الناس إلى علمه.. واستغنى هو عن دنياهم ..
سكان القمم أبعد ما يكونون عن زخارف هذه الدنيا وبهرجها ..الهم الأكبر لسكان القمم هم الآخرة ..أما الدنيا فقد استصغروا متاعها ..واحتقروا نتائجها ..وترفعوا عن الاستباق فيها ..فتحرروا من قيودها وهمومها ..يقول الحسن رحمه الله : ( من نافسك في دينك فنافسه ..ومن نافسك في دنياك فالقها في نحره )...روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كانت الآخرة همه ..جعل الله غناه في قلبه .. وجمع له شمله.. وأتته الدنيا وهى راغمة ..ومن كانت الدنيا همه.. جعل الله فقره بين عينيه ..وفرق عليه شمله.. ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ) ..انه وعيد من الله جل جلاله لمن كانت الدنيا أكبر همه ..فهو مقبل عليها بكليته ..يجمع حطامها في نهم لا ينقضي .. منشغل بذلك عن الآخرة ..فمن كانت هذه حاله.. عوقب بشتات القلب ..فلا يزال لاهثا وراء المال والمناصب والشهوات ..يعب منها لكنه لا يشبع ولا يرتوي ولا يكتفي ..بل يظل في طلب المزيد ..غافلا عن أنه لا يأتيه إلا ما كتب الله له من الرزق ..وان حاله هذا هو عين الفقر ..حيث لا تنتهي حاجته.. ولا يحصل له الرضا بما جمع من المال.. وهذا معنى ( جعل الله فقره بين عينيه ).. وفى المقابل حال الرجل الصالح الذي جعل الآخرة همه ..فهو في سعى دائم لتحصيل الحسنات ..والوصول إلى مرضاة رب الأرض والسماوات ..مع حسن توكله على الله ..فهذا يجمع الله له أمره.. ويرزقه القناعة.. والرضي ..وغنى النفس ..ويبارك له في ماله.. وصحته وأولاده..وهذا هو الغنى الحقيقي ..يقول الإمام ابن الجو زى رحمه الله ( يا هذا حب الدنيا أقتل السم ..وشرورها أكثر من النمل ) وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ( والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) رواه مسلم ..وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس حوله فمر بجدي أسك ميت فتناوله فاخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا ما نحب انه لنا بشيء ..وما نصنع به ..فقال أتحبون انه لكم ؟ قالوا والله لو كان حيا كان عيبا فيه..لأنه أسك.. فكيف وهو ميت ..فقال : فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) رواه مسلم ...وتلاحظ يا أخي الحبيب في هذه الأحاديث تحقير شأن الدنيا وتهوين شأنها بجانب شان الآخرة ..فنعيم الدنيا قليل زائل يشوبه الكدر ..إذا سر فيها المرء أمر ساءته أمور ..أما نعيم الآخرة فنعيم كله لا نكد فيه ولا أحزان ..وقد كان صلى الله عليه وسلم الأسوة و القدوة في نظرته إلى الدنيا.. فلم يركن إليها ولا تعلق بها ..بل كان شأنه فيها كشأن الراكب المسافر الذي استظل في طريقه تحت ظل شجرة ثم قام يواصل سيره ..فالدنيا أشبه بتلك الاستراحة العارضة ..وكما أن المسافر ليس له هم إلا الوصول إلى غايته.. وهى منتهى سفره ..فكذلك العاقل الموفق في الدنيا ..لا يتعلق بدنيا عارضة زائلة .. منشغلا عن النعيم الخالد في الآخرة
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن *** إذن لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة *** وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال آخر: تمتع من الأيام إن كنت حازما *** فانك فيها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه *** فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة *** ولا وزن رق من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن *** ولا رضي الدنيا عقابا لكافر
الأمة الإسلامية تواجه اليوم عدوا شرسا.. كشر عن أنيابه ..واظهر ما كان مستورا في فؤاده ..هذا العدو لا يمكن أن يواجه بأناس ذوى همم ضعيفة ..ولا بأناس تعلقوا بدنياهم ..لا يكسر هذا العدو إلا سكان القمم ..لكم أضر بنا غياب الزهد عن حياتنا ..فالزهد في الدنيا ..من أهم مقومات الصراع بين المسلمين وأعدائهم.. ومواجهة المكائد والمؤامرات التي يتعرضون لها الآن ..وان من الغفلة القاتلة أن يظن المسلمون أن عدوهم غافل عنهم ..فضلا عن أن يتوهموا أنه صديق لهم.. إلا إذا تصوروا أن الذئاب والنمور تصادق فرائسها ..إن عدونا يرقب بحذر ويقظة وتنمر صحوة المسلمين ..مع أن أصحاب الصحوة لم يسلموا من بنى جلدتهم .. وان عدونا يمد عينيه بطمع وشره واحتيال.. إلى ما تبقى في أيدينا من ثروات ..فهو لا يرضى لنا عودة إلى ديننا تبعث فينا الحياة والقوة ..وتفتح أعيننا على مصالحنا .. ما انه لا يرضى للغافلين منا.. أن يهنئوا بما في أيديهم من ثروات ..فهل نفيق الآن ؟ ونزهد في الترف والدعة والراحة.. التي لا تثمر إلا الخنوع والضعف.. ونعمل لنرد عن الأمة غائلة العدو.. ونقطع أطماعه فينا ..أم نبقى في ترفنا وترهلنا حتى تأكلنا الذئاب ؟... من أشد ما تصاب به أمة من الأمم أن يكون أفرادها ذووا همم ضعيفة.. وعزائم واهنة.. وتطلعات قاصرة ..يرى أحدهم نفسه قزما أمام المتغيرات الكبيرة ..والتحولات التاريخية.. فلا يفكر في التغيير ..ولا البدء في مشاريع مستقبلية..ومن هذا وضعه.. كيف يرجى له الشفاء.. إذا كان اعتقاده أنه لا يشفى .. ذلك انه أسير تربية ذليلة ..لم يقم يوما بعمل مستقل.. أو بعمل تعاوني كبير .. لم يتدرب يوما على القيادة ..فإذا فاجأه أمر تقوقع وانزوى لأنه لا يملك الخبرة لإدارته ..إن ارض الله واسعة لمن يريد الانطلاق.. ولمن يريد تأسيس أعمال كبيرة..والطاقات متوافرة ولكنها بحاجة إلى عزمة أكيدة.. وثقة بوعد الله عز وجل ..ولقد بعث الله موسى عليه السلام.. ليخرج قومه من الذل والاستعباد.. إلى التمكين في الأرض.. والاسترواح بشرع الله ..ولكن نفوسهم كانت ضعيفة صغيرة ..لا تستطيع حمل هذا العمل العظيم.. وذلك لما ألفوه من العبودية لفرعون وملأه ..فتصاغرت نفوسهم.. وهانت عليهم ..حتى لم يعودوا يرون أنها جديرة بمرتبة الاستخلاف في الأرض ..لابد أن ينعتق الفرد المسلم من مثل هذه الأجواء التي تقيده وتشعره بضآلته .. وتشعره أنه جزء صغير من آلة ضخمة.. ومن عجلة تدور لا يستطيع الفكاك منها .. لابد أن يقتنع الفرد المسلم.. بأن عنده طاقات وقدرات.. يستطيع بها القيام بأعمال كبيرة ..إن معالي الأمور لا يبلغها إلا أصحاب الهمم العالية.. والعزائم القوية..فالجنة محفوفة بالمكاره ..قال ابن القيم رحمه الله ( علو الهمة لا تقف دون الله تعالى.. ولا تتعوض عنه بشيء سواه.. ولا ترضى بغيره بدلا منه ..وأعلى الناس همة وارفعهم قدرا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقاءه ..) قال الله تعالى ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (يونس:58) ..كان الأعرابي يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله حفنة من شعير قائلا يا محمد أعطني من مال الله فانه ليس مالك ولا مال أبيك ..هذه همة.. بينما همة ربيعة بن كعب.. همة فوق الشمس ( عن ربيعة رضي اله عنه قال : كنت أبيت مع رسول الله.. فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل.. فقلت أسالك مرافقتك في الجنة.. قال أوغير ذلك .. قلت هو ذاك ..قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم
حدث عن القوم فالألفاظ ساجدة *** خلف المحاريب والأوزان تبتهل
أين كانت تحلق همة ربيعة ؟ ..كانت تحلق في سماء رفيعة ..وقمم شاهقة ..وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله ( فلله در الهمم .. ما أعجب شأنها.. وأشد تفاوتها.. فهمة متعلقة بالعرش.. وهمة هائمة حول الأنتان والحش )
سكان القمم جد في السلوك , نشاط في العمل , لا يعرفون التراخي والكسل ..ومن سنن الحياة أن الدنيا لا تعطى حصادها.. إلا لمن يزرعها , ولا جناها إلا لمن يغرسها ..سكان القمم لا ينغمسون في الترف وكثرة المباح ..قال ابن القيم رحمه الله: ( قال لي شيخ الإسلام قدس الله روحه في شيء من المباح : هذا ينافى المراتب العالية.. وان لم يكن تركه شرطا في النجاة , فالعارف يترك كثيرا من المباح برزخا بين الحلال والحرام )
سكان القمم سباقون إلى الخيرات.. مبادرون إلى القربات , لا يفرغ من خير إلا بدأ بخير بعده .. لا ينفض يده من عمل إلا وضعها في عمل آخر ..يفيد نفسه وينفع أمته ..قال أحد السلف: ( إذا هممت بخير .. فبادر هواك لا يغلبك ..وإذا هممت بشر ..فسوف هواك لعلك تظفر )
سكان القمم يتعبون لبلوغ المعالي , ويقاسون المشقة للصعود في درجات الكمال ..لكنه تعب يعقبه فرح.. ونعيم لا شقاء بعده .. يقول ابن القيم رحمه الله ( وقد أجمع عقلاء كل أمة.. على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ..وأن من آثر الراحة.. فاتته الراحة ..وأن بحسب ركوب الأهوال.. واحتمال المشاق.. تكون الفرحة واللذة ..فلا فرحة لمن لاهم له ..ولا لذة لمن لا صبر له .. ولا نعيم لمن لا شقاء له.. ولا راحة لمن لا تعب له ..بل إذا تعب العبد قليلا.. استراح طويلا ..إنما تخلق اللذة والراحة والنعيم.. في دار السلام ..وأما في هذه الدار فكلا )
القمم يسكنها العباد والزهاد والمجاهدون والعلماء والدعاة وطلاب العلم ..شمر لسكنى القمم.. السابقون من أنبياء الله.. وأصحابهم.. ومن سار على نهجهم ..إن السكنى في القمم هي الحياة التي من حرمها..فهو في جملة الأموات ..والنور الساطع الذي يسترشد به الغرباء في بحار ظلمات الدنيا ..وهى الشفاء الذي من فقده.. فقد أصابته جميع الأسقام ..وبها تكون اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ..إذا هممت فبادر ..وان عزمت فثابر ..واعلم أن لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر ..يا طالبا للدعة أخطأت الطريق .. علة الراحة التعب ..إذا لم تكن أسدا في العزم ..ولا غزالا في السبق.. فلا تتثعلب .. من خاف ركوب الأهوال.. بقى عن إدراك الآمال .. من وجد الله فماذا فقد , ومن فقد الله فماذا وجد ( متى صح الود منك فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب )
إذا اطلع الخبير على الضمير.. فلم يجد في الضمير غير الخبير..جعل فيه سراجا منيرا ..
سكان القمم في كل وقت يقل عددهم.. لكن يجل قدرهم.. حتى إذا ماتوا فهم أحياء ..فكم من أناس موتى.. تحيا القلوب بذكرهم .. وأناس أحياء تموت.. القلوب برؤيتهم ..قال ابن القيم ( تفنى عظام الصب بعد مماته وأشواقه وقف عليه محرم )
وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : لا تصغرن همتك.. فاني لم أر اقعد بالرجل.. من سقوط همته ..وقد قيل : المرء حيث يجعل نفسه ..إن رفعها ارتفعت..وان قصر بها اتضعت ..قال ابن الجو زى رحمه الله ( وقد عرفت بالدليل.. أن الهمة مولودة مع الآدمي.. وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات ..فإذا حثت ثارت .. ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم ..أو كسلا فالجأ إلى الموفق ..فلن تنال خيرا إلا بطاعته ..ولن يفوتك خير إلا بمعصيته ) ..وقال أيضا رحمه الله في صيد خاطره ( قال الكلب للأسد يوما : يا سيد السباع.. غير اسمي فانه قبيح ..فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم .. قال جربني , فأعطاه قطعة لحم وقال له احفظ هذه إلى الغد وأنا أغير اسمك..أخذ الكلب قطعة اللحم ..وبعد زمن جعل الكلب ينظر إلى اللحم ويصبر .. فلما غلبته نفسه قال : وأي شيء في اسمي.. وما كلب إلا اسم حسن.. وأكل اللحم ..يقول ابن الجو زى : وهكذا خسيس الهمة.. القنوع بأقل المنازل.. المختار لعاجل الهوى.. على آجل الفضائل ..فالله الله في حريق الهوى إذا ثار فانظر كيف تطفئه ) المشكلة هي قناعة الشخص بالمستوى الذي هو فيه ..فإذا اقتنع بذلك.. فاعلم أن هذه هي أول خطوة في الانحدار ..إليك يا أخي الحبيب نماذج ممن سكنوا القمم .. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.. يقول عنه شقيق بن عبد الله : مرض عبد الله بن مسعود.. فعدناه ..فجعل يبكى.. فعوتب فقال : انى لا أبكى لأجل المرض فاني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ..المرض كفارة.. وإنما أبكىأنه أصابني على حال فترة.. ولم يصبني في حال اجتهاد ..فانه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض.. ما كان يكتب له قبل أن يمرض.. فمنعه منه المرض ...والإمام الطبري جلس أربعين سنة..وهو يكتب كل يوم أربعين ورقة في التأليف ..وابن الأثير ألف كتبه الرائعة.. كجامع الأصول والنهاية في غريب الحديث ..بسبب أنه مقعد ..وابن القيم كتب زاد المعاد وهو مسافر ..والقرطبى شرح صحيح مسلم وهو على ظهر سفينة ..وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ..جل فتاويه كتبها وهو في السجن .. وابن الجو زى يتحدث عن نفسه ويقول ( نظرت إلى علو الهمة فرأيتها عجبا.. وذلك أنني أروم الليل كل العلوم.. وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه..وأروم نهاية العمل بالعلم.. مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق ..وأروم الغنى عن الخلق.. والاشتغال بالعلم مانع من الكسب ..وها أنا ذا احفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة ) ..والإمام النووي رحمه الله وصف حياته لتلميذه ابن العطار.. فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنا عشر درسا على مشايخه شرحا وتصحيحا.. درسين في الوسيط , ودرسا في المهذب ,ودرسا في صحيح مسلم ,ودرسا في اللمع , ودرسا في إصلاح المنطق , ودرسا في التصريف ,ودرسا في أصول الفقه , ودرسا في أسماء الرجال , ودرسا في أصول الدين ,..قال وكنت اعلق على جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل.. ووضوح عبارة.. وضبط لغة..وبارك الله تعالى في وقتي ...وهذا عبد الله بن المبارك ..نور مرو وجمالها ..ونجمها وهلالها ,يقول عنه محمد بن أعيل.. وكان صاحبه في أسفاره ( كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم.. ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام.. فقمت أنا برمحي في يدي قبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك , قال فظن انى قد نمت فقام فاخذ في صلاته.. فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا ارمقه , فلما طلع الفجر أيقظني وظن أنى نائم فقال يا محمد, فقلت انى لم أنم قال.. فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني.. ولا ينبسط إلى في شيء من غزاته كلها كأنه لم يعجبه ذلك منى لما فطنت له العمل ..فلم أزل أعرفها فيه حتى مات.. ولم أر رجلا أسر بالخير منه ) ..عن القاسم بن محمد قال ( كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي.. بأي شيء فضل هذا الرجل علينا ..حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة ؟ .. إن كان يصلى إنا لنصلى ,وان كان يصوم إنا لنصوم , وان كان يغزو فانا لنغزو ,وان كان يحج إنا لنحج ..قال فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ..فتعشى ليلة في بيت إذ طفىء السراج.. فقام بعضنا فاخذ السراج واخذ يستطلع.. فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج ..فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع.. فقلت في نفسي بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا , ولعله حين فقد السراج وصار إلى ظلمة.. ذكر القيامة ) ..وكان على بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ويتصدق به ويقول إن صدقة السر تطفىء غضب الرب .. قال عمرو بن ثابت لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره فقالوا ما هذا.. فقيل كان يحمل جراب الدقيق ليلا على ظهره.. فيعطيه فقراء أهل المدينة ..
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
وداود ابن أبى هند صام أربعين سنة.. لا يعلم به أهله ولا احد من الناس , وكان خبازا فيحمل معه طعامه من عند أهله فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيا فيفطر معهم , فيظن أهل السوق انه قد أكل في البيت ويظن أهله انه قد أكل في السوق
سكان القمم من أكثر الناس تعرضا للفتن والبلاء , قال صلى الله عليه وسلم ( اشد الناس بلاء الأنبياء .. ثم الأمثل فالأمثل ) قال الإمام العلامة المناوى رحمه الله معلقا على هذا الحديث ( ومن ظن أن شدة البلاء.. هوان بالعبد فقد ذهب لبه.. وعمى قلبه , فقد ابتلى من الأكابر مالا يحصى .. ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحي بن زكريا ..وقتل الخلفاء الثلاثة ,والحسين وابن الزبير وابن جبير , وقد ضرب أبو حنيفة وحبس ومات بالسجن , وجرد مالك وضرب بالسياط وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه .. وضرب الإمام أحمد حتى أغمى عليه , وقطع من لحمه وهو حي.. وأمر بصلب سفيان فاختفى .. ومات البويطى مسجونا في قيوده , ونفى البخاري من بلده ) ويضاف على تعليق المناوى رحمه الله.. بان سجن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومات في سجنه..وفعل ما فعل بتلميذه ابن القيم ..( كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسر من التعب )
إن الجنة غالية.. لكنها محفوفة بالمكاره .. ومن رام السعادة.. تصدى لعبور جسر المشقة بالجد والاجتهاد ...