تحليل الشخصية اليهودية :
ازدهرت دراسة الجماعات لدوافع مختلفة. ففي البداية اقتصر الامر على الرغبة بالاطلاع على التنوع الانساني. وكان ذلك في فترة مبكرة من تاريخ الاجتماع الانساني. تلا ذلك فترة سيطرت فيها رغبة البحث عن عيوب ونقائص المجموعات. هذه السيطرة التي عكست تنامي حدة الصراع بين المجموعات. ولعل في سخرية الجاحظ من اهل " مرو " وبخلهم دليل على ذلك كما على قدم الاهتمام بدراسة الجماعات وخصائصها المشتركة المميزة مهما يكن فان البداية العلمية للبحث في هذا الموضوع يؤرخ لها بصدور كتاب " نماذج من الثقافة " الذي اصدرته الباحثة بينيديكت عام 1943 وفيه خلصت الى التأكيد على ان الثقافات التي درستها دمغت شخصيات الافراد المنتمين اليها. وهذا التأريخ يصح في حال الحديث عن الانثروبيلوجيا الثقافية الا ان التطورات اللاحقة حولت دراسة الجماعات والشعوب الى موضوع توظيف سياسي. وكان ذلك بمناسبة الحرب العالمية الثانية. وهي كانت عالمية بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة. سواء بالمشاركة كطرف او كمسرح للمعارك أو بالتأييد العلني أو الضمني.
وبما ان هذا الفرع قد شهد بدايته في الولايات المتحدة التي لم تنخرط في الحرب الا عام 1941 فقد كان من الطبيعي ان تحتضن هذه الدراسات. يضاف الى ذلك هجرة علماء النفس الاوروبيين اليها هرباً من الحرب وأيضاً الطابع الانفتاحي الاميركي الباحث عن الدراية لا عن الجزء المسمى بالمعرفة منها. وهذا سبب السبقات التي تمكن هذا البلد من تحقيقها. مما تقدم نلاحظ تشعب الموضوع واختلاف منطلقاته البحثية بما يضيق المجال بنا لعرضه. لـذا نفضل الدخول الى موضوعنـا وهو ( التحليل النفسي للشخصية اليهودية ) 0
1 ـ بين اليهودية والاسرائيلية : إن الحديث عن شخصية اسرائيلية يصطدم بجملة مخالفات للمنطق العلمي. ذلك أن المجتمع الاسرائيلي هو خليط من مجموعة متنوعة من الثقافات. وهو مجتمع مهاجرين بمعنى انه ممكن التقسيم بحسب تاريخ الهجرة اليه . حيث نبدأ من طائفـة السابرا وهم المولودين في فلسطين وننتهي بطائفة اليهود الروس وبعضهم لم يمض عام واحد بعد على قدومهم الى اسرائيل . ومع اننا لا نريد الخوض في مسألة صراع الهوية الاسرائيلية الا اننا مضطرون للاشارة الى انعدام وجود هوية جامعة لهذا المجتمع . أو اقله عدم توصل الاسرائيليين للاتفاق على هوية موحدة لمجتمعهم. وهذا مايدعونا الى تسمية اسرائيل بـ:اتحاد الحارات اليهودية. فقد ترك اليهود حاراتهم في بلدهم وجاؤا كي يعيدوا اقامتها في اسرائيل. حيث نجد ان لكل حارة لغتها الخاصة ـ والحارة القوية تصدر صحفها بهذه اللغة وليس بالعبرية ـ ونجد أن لها ايضاً أحزابها ومؤسساتها الاجتماعية الخاصة. ولو اخذنا المهاجرين الروس مثالا لوجدنا ان ثلثيهم مشكوك بيهوديتهم. و لوجدنا ان صراعهم مع المتشددين قد بلغ حدود استعمال قنابل المولوتوف. ولوجدنا في المقابل أن لديهم حزبان ممثلان في الكنيست وان حجم هذا التمثيل في تزايد مستمر منذ بداية هجرتهم وحتى اليوم. فاذا ما نظرنا الى خصائصهم الجمعية لوجدنا انهم يشكلون نماذج صادقة للشخصية الروسية. أما عن اليهود العرب فان النكتة الاسرائيلية تقول بأن اجنبياً سأل اشكينازيا: ما هو سر كراهيتكم العميقة للعرب؟. اجاب الاشكينازي:لأنهم يشبهون اليهود العرب!. فاذا مانحينا جانباً البعد الايديولوجي الرافض مبدئياً لفكرة التسليم بوجود قومية اسرائيلية (تدعمه في ذلك الأسباب المبينة أعلاه) فان محاولة التورط في دراسة شخصية اسرائيلية تأتي مخالفة لكل قواعد البحث العلمي. حيث تقوم الدراسة على البحث في الخصائص العامة المشتركة لدى الجماعة ومن ثم يتم البحث في العناصر الثقافية التي استعارتها هذه الجماعة . وهذا غير ممكن التطبيـق فـي الحالـة الاسرائيلية حيث العنصر الثقافي الوحيد الجامع هو اليهودية. بل ان هذا العنصر نفسه هو موضوع جدل مستمر. فالشكوك تطاول يهودية 90 % من يهود العالم. حتى أن علمانيي اسرائيل يحاولون علمنة الديانة كي تتسع لعضوية اعضاء جدد يدعمون المشروع الصهيوني العلماني 0 لهذه الأسباب مجتمعة نجد من المستحيل رصد ما يمكن تسميته بالشخصية الاسرائيلية مما يجبرنا على العودة الى دراسة الشخصية اليهودية حيث سمات هذه الشخصية قد تكّون القاسم المشترك الوحيد بين يهود اسرائيل. وحتى في حال ورود مصطلح الشخصية الاسرائيلية فاننا ننصح القاريء وبناء على ما تقدم بترجمة المصطلح الى يهودية بدلاً من اسرائيلية.
2 ـ الدراسات السابقة : افتتح فرويد هذه الدراسات في كتابه(1) المعنون " الطوطم والمحرم " الذي استند فيه الى الانثروبولوجي فريزر. الا أن تطرقه لتحليل الشخصية اليهودية تأخر لغاية (1914) عندما نشر مقالته " موسى و مايكل انجلو " التي نشرها دون توقيع. ثم نشر بعدها الجزئين الأول والثاني من كتابه " موسى والتوحيد " عام 1937 أما القسم الثالث والأخير فنشره عام 1939. حيث قدّم في هذا الكتاب تحليلات عميقة للشخصية اليهودية(2). وإن كان بعضهم يرد دافع تأليفه لهذا الكتاب الى محاولته التوحد بشخصية موسى 0 اللافت في هذا الكتاب هو اصرار فرويد على انتزاع موسى من اليهود في الوقت الذي يتعرضون فيه لملاحقة النازي؟. وهم قد أعطوا جملة اجابات لا يمكن اعتبار احداها مقنعاً!. فاذا ما نظرنا الى هذا الانتزاع على ضوء المعارف السيكاترية الراهنة لوجدنا أن هذا النكران هو مظهر تفككي (Dissociativ). فاذا ما راعينا رغبة التوحد لدى فرويد امكننا الاستنتاج بأن فرويد كان يعاني في هذه الفترة من هذا التفكك . وهذا تحديداً ما يجعله أقدر على تبيان عيوب الشخصية اليهودية المرفوصة من قبله. وهو رفض يمكن رده الى الجرح النرجسي الذي اصابه لاضطراره ، بسبب يهوديته ، للهرب من فيينا الى لندن 0 ونؤجل عرض آراء فرويد في الشخصية اليهودية لنذكر أن بعض اتباعه من المحللين حذا حذوه لجهة توظيف التحليل في الدراسات الانثروبولوجية. ومن هؤلاء نذكر يونغ الذي عني بدراسة الأساطير ونشر كتاب " الاله اليهودي " وابراهام وريخلن وروهايم. ونسجل لهذا الاخير ملاحظة قيمة اذ يقول(3):"… ينبغي أن يكون للطابع القومي كينونة ثابتة عبر الاجيال. ترتكز على تكرار نفس الموقف الطفولي". واذا كنا في مجال استعراض الكتابات السابقة حول الموضوع فلا بد لنا من التوقف عند محطتين هامتين. الأولى مقالة للمرحوم مصطفى زيور بعنوان: " أضواء على المجتمع الاسرائيلي ـ دراسة في التحليل النفسي ". (منشورة في الأهرام بتاريخ 8/8/1968) كما نتوقف عند مجموعة دراسات البروفسور قدري حفني. التي بدأها برسالة جامعية بعنوان "الشخصية الاسرائيلية ـ الاشكينازيم ". ولناعودة الى هذه الدراسات.
3 ـ فرويد يحلل الشخصية اليهودية : توخيا للاختصار سنحاول ايجاز التحليل الفرويدي للشخصية اليهودية بنقاط محددة نختصرها كما يلي:
أـ إن الرواية اليهودية لقصة موسى لا تنسجم ومنطق الأمور. فالأصح هو ان يكون الفرعون قد حلم ان ابن ابنته سيكون خطراً عليه لذلك امر بالقائه في النيل فوجده اليهود وتعهدوا تربيته. وليس العكس كما تقول الرواية اليهودية. بذلك يكون فرويد من اوائل المشككين بالروايات التوراتية. وهو يدعم آراءه ببحوث مؤرخين جدد (لاحظ ان هذا المصطلح ليس جديداً كما يدعي المؤرخون الاسرائيليون الجدد) من أمثال ج.ه.بريستد وماير وغيرهم.
ب ـ الرواية السابقة تؤكد مصرية موسى ولاعبرانيته. ويقول : فرويد بـأن ذلك يجب الا يكـون مدعـاة للاستغـراب فـنابليون مثلاً لم يكن فرنسياً!. الا أن نفي فرويد ليهودية موسى يعني نفي اسطورة الشعب المختار ليهوديته.
ج ـ يتهم فرويد اليهود بقتل موسى ـ المصري ـ لأن العبرانيين لم يستطيعوا الارتقاء الى مستوى الروحانية التي يتضمنها دين موسى. وهو يدعم هذا الرأي بالاستشهاد بكتابات المؤرخ اليهودي أ.سيلن.
د ـ إن فرويد لا يشكك فقط بالتراث اليهودي بل هو يشكك أيضاً بالتوراة نفسها اذ يقول:"… ان النص التوراتي الذي بين أيدينا يحتوي على معلومات تاريخية مفيدة بل لا تقدر بثمن. لكن هذه المعطيات تم تحريفها بفعل مؤثرات مغرضة قوية. كما تم تجميلها شعرياً ". وبهذا يؤسس فرويد لمعارضة قراءة التاريخ انطلاقاً من المرويات التوراتية. وهو يدعم رأيه هذا بتباعد الفترات الزمنية لتدوين اجزاء التوراة الذي لم يكتمل الا بعد ظهور موسى بتسعة قرون!.
4 ـ زيور يحلل الشخصية اليهودية : ركز زيور في تحليله لهذه الشخصية على انقلابها من الاستكانة والذل والاختناق في الغيتوات (حارات اليهود) وبين تحولها الى الشراسة والارهاب عبر عصابات شتيرن وارغون والهاغاناه وغيرها. ومن ثم عبر اتحاد هذه العصابات لتأليف جيش الدفاع الاسرائيلي . وهكذا تمحور بحثه حول إيجاد التعليل لهذا التحول. لذلك رأى زيور في تجربة الأسر النازي صدمة نفسية شجعت آلية توحد اليهودي بالجلاد النازي. وأورد دراسات تناولت الناجين من الأسر تبين معاناتهم من مظاهر مرضية مثل: النقص في الحس الاجتماعي والأخلاقي الذي يعبر عنه بنوع من الحذر التوجسي (الشك) وثيق الصلة بتوجس مرضى البارانويا. وكان هؤلاء الناجون ، اذا ما اتيحت لهم حرية التعبير عن عدوانيتهم، يصلون الى درجة الاندفاعات العدوانية المتوحشة. ويؤكد مينكوفيسكي هذه الوقائع لكنه يتبعها بالقول: "… قد يكون الامر انخفاضا في المستوى الأخلاقي. لكن يجب الحذر في استخدام الألفاظ… وعلى أية حال فان المستقبل لا يبدو بالضرورة ميئوساً منه فقد استطاع الكثير من أطفال بوخنفالد ان يستعيدوا بعض الاتزان وخاصة في اسرائيل.". ويعترض زيور على هذا التفسير الاعتباطي لمينكوفيسكي فيرى أن هذا الاتزان الظاهر ان هو الا تنظيم جديد للتوحد بالمعتدي (أي مجرد تغيير في اتجاه العدوانية). فقد استنسخ اليهود سلوك النازي في مذابح دير ياسين وغيرها. ويعطي زيور مثال مناحيم بيغن الذي اكتملت فيه معالم شخصية السفاح ليكون أبرز أمثلة التوحد بالمعتدي النازي اما موشيه دايان فهو خير متقمص للعسكرية النازية. ولا يقصر زيور آلية التوحد بالمعتدي على خريجي المعتقلات النازية. بل هو يرى أن هذه الآلية قد انتشرت كالوباء بين اليهود عبر التعاطف مع الضحايا اليهود. وينهي زيور تحليله بالتقرير بأن ما يجمع بين التجمعات اليهودية الاسرائيلية بالرغم من اختلافها في كل شيء انما يتلخص بهذا التوحد بالمعتدي الذي أتاح لليهود التحول من المذلة إلى الطغيان ومن الخنوع إلى السفاحية. لذلك يستنتج المحلل الحاجة الاسرائيلية ـ النفسية لممارسة العدوان. فشخصية المتوحد بالمعتدي تفقد تماسكها إن هي توقفت عن العدوان. لأنه يطمئنها مانعاً تفجر موجات القلق والرعب فيها. وكأن لسان حالها يقول ما دمت أنا المعتدي فلا خوف علي من الارتداد إلى ما كنت عليه: يهودياً تائهاً رعديداً يفتك به الناس في كل مكان. من هنا يمكن استنتاج هشاشة الشخصية الإسرائيلية. وعدم قدرتها على تحمل أي إحباط. كون الإحباط يصيب هذه الشخصية بالتهاوي والتفكك مهدداً بزوال الهوية الزائفة. لذلك فان القادة الاسرائيليين مجبرين على تأمين أفضل مستويات الروح المعنوية ليهودهم(4).
4 ـ حفني يدرس شخصية الاشكينازي : تناول حفني موضوعه من منطلق سيكولوجي معتمداً على الدراسـات النفسيـة المنشورة حول التجمـع الاسرائيلـي ـ الاشكينازي. ومعتمداً المحاور البحثية التالية: 1 ـ الاضطرابات الطفلية و2 ـ القدرات العقلية و3 ـ الاضطرابـات السلوكيـة و4 ـ العدوانية و5 ـ الانطوائية والتمركز حول الذات و6 ـ التشاؤم والتشكك و7 ـ انعدام الانفعال. هذا وتكاد البحوث تتفق على عدم وجود فوارق ذات دلالة لدى أفراد هذا التجمع في معظم هذه المحاور. اذ يتركز الاختلاف حول المحاور السلبية وحدها وهي: العدوان والانطواء والشك والتمركز حول الذات والتشاؤم والتشكك والانفعال. وهذه الصفات السلبية يمكنها أن تفسر اضطراب الشخصية الاشكينازية وفشلها في الانفتاح حتى على بقية اليهود الاسرائيليين. ان الجهد الذي بذله البروفسور حفني في هذه الدراسة ساهم في إثارة الاشكالية وأذكى شجاعة مواجهة حقيقة الجماعات التي تعادينا. وهو أسّس بذلك لقائمة من الدراسات الهامة في المجال.