هذه إحدى محاولاتي في عالم السرد أرجو أن تحوز رضاكم
( 1 )
قارئة الكف
حين اتجه حسن إلى باب الشقة الخارجي وأبطأ قليلا تساءل صديقه من الداخل :
- من كان يقرع الباب يا حسن ؟!
وبعد أن تلكأ حسن قليلا أجاب
- لا ..لا لا لا أحد إنها متسولة أخرى ومعها أطفال صغار ...
فرد عليه بضجر
- فلتحسن إليها ... أو اصرفها
- ولكنها تقول شيئا غريبا إنها... تقول ... دعني أقرأ لك الكف ثم أعطني ما تريد
- وهل تصدق مثل هذه الألاعيب والخرافات ....
ثم أردف بنبرة خاصة – يعرفها من يسكن الشقق المفروشة حين يسافر إلى الخارج –
- أو اسألها هل تحسن شيئا آخر
أجاب حسن وهو يضحك – لا تبالغ إنها امرأة عجوز ...
- أووه إذن أنت وشأنك
وأتى صوت المرأة العجوز كالفحيح القادم من عوالم بعيدة
- أنا لا أحب الإحسان من أحد ....ولكنني خبيرة في قراءة الكف
ورد حسن بعد تردد : - ولم لا؟!!....
وأخذت يده وتفحصتها مليا ثم بدأت تتحدث - بطريقة مسرحية -
- آه ...آه ...هذه الكف ...اممممم هذه الخطوط .... تلك التقاطعات ....لا لالالا يمكن ...
قاطعها حسن بعصبية – قولي ما عندك يا وجه النحس
- قد لا يعجبك حديثي ...( وازدادت رنة الفحيح ) أقصد... لن...
صاح بها وهو يضغط أسنانه ومخارج حروفه : - تحد..ثي..
فردت : - حسنا ..حسنا .... سيقتلك طفل .... وستطير وتطير وتطير ..
فانفجر فيها بكل صوته وهو يرمي لها بعض الليرات
- اغربي عن وجهي ..لا بارك الله فيك ..هيا
وتعالت حوله ضحكات أصدقائه الذين شدهم الحوار .......
( 2 )
عربدة
حين أفرغ الثلاثة كأسهم الأخير قال ناصر لصديقيه بلسان ملتو قليلا:
-هيا... لم يبق الا وجبة الفط....ور
أجاب سامي بلسان ملتو أكثر وهو يحس بعمود النار في معدته :
- ولكنني سأتولى القيادة ..
ولم يعلق عماد بشيء فقد كان في ملكوت آخر وهو يتبعهم بتثاقل لسيارة ناصر الحمراء ...
كان سامي يحلم بالسيارات الفارهة ... ويحلم بأشياء أكثر ...ولكن دائما بعد الكأس الخامس أو السادس فإن قيادة هذا الجيب الأمريكي المكشوف ذو اللون الأحمر يرضي الكثير من غروره ويحسسه بحقيقة متعة القيادة ...
وأنطلق الثلاثة ... ولكن سامي لم يتجه للشارع العام بعد التقاطع الأول كما هي العادة لمطعمهم الصباحي بل اتجه إلى طريق آخر كيفما اتفق وحين طال الطريق بالثلاثة تململ عماد في مؤخرة السيارة وخاطبهم بلسان ملتو كثيراً :
- ألم نصل بعد إلى هذا المطعم ؟ أحس أن المسافة طويـــــــــــــــلة جداً اليوم ...
فقرر ناصر قائلاً:
- توقف يا سامي عند أول مخبز أو بقالة ...
وعندما توقف سامي ترجل ناصر كالعادة لشراء أي فطور ... كان ناصر شابا ضخم الجثة ومرفه كثيرا ويملك سيارة ويستضيف صديقيه العاطلين يوميا وحين تأخر قليلا بدأ صديقاه يقلقان وقال عماد :
- لا بد أن صاحب المحل اشتم رائحة ناصر أو أنه قد نسي أننا ننتظره في الخارج ...
- لا لا فناصر دائما يتدبر نفسه لا تخف ...
وأقبل ناصر ولكنه لم يكن وحده كان يصطحب حدثا في الرابعة عشر من عمره أو أقل قليلا وذا وسامة واضحة ... يمشي بتردد خلف ناصر ...
- من ... هذا يا ناصر ؟ هكذا تساءل سامي
- هيا يا رفاق سيكون يومنا ممتعا مع هذا الصبي ...!!
فصاح سامي
- لا لا دعه واصعد السيارة وانس الأمر تماما
- أنت جبان دائما ... هيا فقد أعطيته بعض السجائر وسيدلنا على سوق السمك القريب ... فنحن غرباء كما أخبرته ... لم هذا التردد ... سيفر منا فهو خائف ومتشكك في كلامي وكان الصبي قد استدار فعلا مبتعدا عنهم لكن ناصر نزل وأخذه بين يديه وحشره في المقعد الخلفي للسيارة التي انطلقت بكل سرعتها ...
( 3 )
طيران
بعد تردد طويل وتفكير عميق استجمع حسن قواه وقال مخاطبا أصدقاءه لن أعود إلى الوطن بالطيارة بل سأستقل حافلة النقل الجماعي في عودتي ...
توقف صخب الشقة فجأة وساد صمت قصير وهم ينظرون إليه بين ضاحك ومعاتب وآخر حانق ...
قال أحدهم وهو يضحك :
- يبدو أن حسن بدأ يحب التوفير ثم مال مخاطبا حسن هيه أيها الغبي المتحاذق لا تنس أنك قد دفعت قيمة التذكرة مسبقا ذهابا وعودة ... هل تفهم ؟...
لكن أحدهم علق بجدية :
- أنتم لا تفهمون ... هذا الرجل تأثر كثيرا بحديث تلك العجوز المتسولة الـ... أنا لاحظت شرود ذهنه وتوحده ... ولعلكم لاحظتم البارحة أنه لم يذهب معنا للمرقص ... ولم ...
فقاطعه الآخر كمن ضاق ذرعا بهذا الموضوع ويريد إنهاءه بسرعة :
- اسمعني يا حسن أنت رجل عاقل وإن بدأت أشك في ذلك ... أي طفل سيقتلك هيا أخبرني ؟ ... أنظر لجسمك الضخم فأنت شاب ضخم الجثة وتبدو قويا ... ألم تنظر لنفسك قريبا في المرآة فقتلك يحتاج إلى ثلاثة أشخاص على الأقل بينهم واحدة كهذه ... وطوق بذراعيه الفتاة الجالسة بجانبه التي ردت بضحكة ذات رنين خاص ...
لكن حسن الذي بدأ جادا في كلامه رد قائلا :
- لكن تلك الحيزبون قالت أنني سأطير وأطير ... وأطير لذا لن أستقل الطائرة ... هل تفهمون لن ...
قاطعه أحدهم وهو يتجه للطاولة ... كفى هراء ... كفى لقد أفسدت ما في رأسي ... سأحتاج لكأس أخرى حتى يعود لي مزاجي ... افعل ما يحلو لك ... ثم بلهجة شبه آمرة
- لا يناقشه أحد في هذا الموضوع ... هذا كلام نهائي ...
( 4 )
الويل والثبور
كان عبد الله يغلي غيظا فيكاد ينفجر حنقا وهو يرى أخاه الأصغر يتلقى علقة ساخنة من أبيه أمام باب المنزل بينما هرع جارهم لفض التجمهر أمام الباب ويحاول تخليص وافي من أبيه ... كان صوت صراخ أمه من الداخل يزيده غضبا فاندفع للداخل محاولا إسكاتها أو دفعها لداخل المنزل ... وبعد أن دخل أبوه ووافي وجارهم منعًا لتجمهر الناس في الخارج كان يسمع جارهم وهو يصيح مخاطبا أباه :
- حسبك ستقتل الصبي فهو لا ذنب له ...
فرد الأب المكلوم وهو يصفع الصبي
- هو من عرض نفسه لهذا الموقف ... آه آه فبعد أن كنا نواسيك في ابنك ... يتعرض ولدي بعد أسبوع لنفس الموقف ومن نفس هذا الذئب ...
وهنا تكلم عبد الله بين دموعه لأول مرة قائلا :
- لكن لماذا لا تخبرون الشرطة هاه لماذا ؟
رد أبوه حانقا ...
- اسكت يا كلب ... هذا ليس من شأنك ما ذا تريد الفضائح ... والمحاضر ... وتقارير المستشفى وشماتة الناس ... اسكت أنت لا تفهم ... أنا متأكد أنني سأصطاد هذا الذئب بنفسي ... هذا الشاب ذو السيارة الجيب الحمراء ... الـ.... الــ....
وهنا تحدث جارهم كمن يصدر قرارا حكيما – فقد كان عمدة الحارة - اسمع ... أنا سأطلب من جميع الجيران تحذير أبناءهم وما دام هذا الشاب قد اعتاد أن يصطاد أطفالنا في أقل من أسبوع فثق تماما أنه سيعود قريبا ... وسيلقى جزاءه ...
وهنا خاطب الأب ولديه :
- اسمعا إن عرفت أن أحدكما تعرض لهذا الموقف سأقتله بنفسي وأسلم نفسي للشرطة ... هل تسمع يا عبد الله سأقتلك ...
( 5 )
ستطير .. وتطير .. وتط ..
ازدادت حالة حسن سوءا بعد عودته برا للوطن ...
وكبرت مخاوفه ووساوسه عن الطيران وقلقه من الأطفال حتى المصاعد امتنع عن ركوبها وأصبح يتجنب الصعود للطوابق العليا ... ومع مرور الوقت كان وسواسه القهري عن الأماكن العليا يزداد .. وتودده الزائد الملفت للنظر لكل الأطفال الذين يقابلهم منحنيا بجسمه الضخم حاملا لهم الهدايا ... مما يبعث الريبة والشك لكل من يشاهده ...
وفي ذلك الصباح كان يتسكع في سيارته الجيب الحمراء عندما توقف أمام مخبز في أحد الحارات لم يلحظ العيون التي كانت ترقبه وهم ينتظرون اللحظة الحاسمة للانقضاض عليه وحين خرج من المخبز لم يسترع انتباهه زيادة التجمهر في المسافة بين المخبز والسيارة على طرف الشارع حيث كان عبد الله أمامه مباشرة وخلفه أبوه ووافي والعمدة وبعض الجيران ... وبحركة غريزية تعودها أخيرا اقترب متوددا من عبد الله إن كان لديه رغبة في بعض الخبز !! الذي صاح وهو يشهر قضيبا معدنيا :
- على مين تلعبها ... يا ابن الكـ...
وزاغ نظر حسن وهو يتفادى الضربة ... حين رأى قارئة الكف بجانب سيارته واندفع يجري بكل قوته نحو السيارة وعدد لا بأس به يعدون خلفه مسلحين بالعصي والقضبان المعدنية وفي الاتجاه الآخر من الطريق كانت سيارة جيب حمراء أخرى مترنحة مكشوفة بها ثلاثة شبان وصوت المسجل العالي يسمع من بعيد وهي قادمة بسرعة حين صاح سامي بلسان ملتوٍ :
- انظر يا ناصر هذه سيارة تشبه سيارتك بجانب المخبز بينما صرخ عماد بسرعة
- حاذر يا سامي من هذا التجمهر
- ولكن حسن ظهر أمامهم فجأة ليصطدموا به ووجد حسن نفسه يطير ويطير ... ويطير ...