هذه بعض المقتطفات تتكلم عن الشعر وعلاقته بالفن التشكليلي ..
وهي للأكاديمي والناقد السوري .. (( عبدالله خلف العسّاف ))
وهذا نصها ..
=============
إن من أبرز الملاحظات التي تُسجّل على أغلب الشعر الجديد القطيعة بينه وبين الفنون الأخرى. ولا أدري هل هذا عائد إلى ضعف ثقافة الشاعر، أم إلى عدم قناعته بذلك ؟ علماً بأن العلاقة بين الفنون قديمة تشهد بذلك الأسطورة والملحمة والمسرح.
لقد بدأ الفن حياته مع بداية وجود الإنسان على الأرض. ولعل أول لوحة فنية رسمها كانت حينما وضع كفّه المصبوغة بدم القربان على جدار الكهف فنتج عن ذلك لوحةٌ فنية عليها كفٌّ تُشبه كفَّ الإنسان.
لقد تطور الفن مع تطور الإنسان وكان في كل مرحلة من مراحل تطوره يعبّر عن تصوراته وأحاسيسه ومخاوفه وأفراحه، سواء أكان ذلك بالكلمة أم بالريشة أم بالصوت أم بالرقص أم بالنحت. ومع هذا التطور الذي فرضته طبيعة التقدم الحضاري بدأت الفنون تستقل عن بعضها بعضاً، وبدأ كل فن يتطور حتى أصبحت له أصوله وقواعده وتوجّهاته التي يُعرفُ بها. وقد تطور النقد مع تطور الفنون، وانتقل من طور الانطباع إلى طور الدرس والتحليل والتقويم، وأصبح لكل فن نقد خاص به. وقد وُضعت في هذا النقد أصول النوع ومناهجه وتوجّهاته.
وعودة سريعة إلى الأفكار الفلسفية والآراء النقدية نجد عدّة اتجاهات في تصنيف الفن، فبعضها انطلق من الزمن، وبعضها انطلق من طبيعة مواد الفنون، وبعضها انطلق من غاية الفنون. وعلى أساس تصنيف الاتجاه الأول نجد مايلي: فن العصر البدائي، فن الحضارات القديمة، فن العصور الوسطى، فن عصر النهضة والباروك، فن الروكوكو، الكلاسيكية، الرومانتيكية، الرمزية، الواقعية، الطبيعية، التجريدية، التكعيبية، الدادائية، السريالية، الواقعية الاشتراكية. وعلى أساس التصنيف الثاني الذي انطلق من طبيعة مواد الفنون نجد أن الفنون تُقسم إلى قسمين: فنون زمانية وفنون مكانية؛ فأما الفنون الزمانية فهي فن الموسيقى، والفنون التي تتعاطى مع الكلمة كالمسرح والشعر والرواية والقصة القصيرة،، وأما الفنون المكانية فهي التي تأخذ حيزاً في المكان، وتنطلق منه وتقوم أساساً عليه، وتقـدّم الزمان بوساطة المكان، وهي ما سمّيت بالفنون التشكيلية، وهي: فن الرسم، وفن النحت، وفن العمارة، وفن الزخرفة، وفن الديكور. وقد قُسمّت الفنون أيضاً تقسيماً يتبعُ الغاية؛ فقسمٌ من الفلاسفة والنقاد ذهب إلى أن الفن الحقيقي هو الذي ينطلق من اللعب، ويُبنى جمالياً عليه (مدرسة الفن للفن )، وذلك ليحقق اللعب والترفيه للمتلقي والمبدع بآن معاً. وقسمٌ آخر ذهب إلى أن الفن يجب أن يتسلح بغاية نفعية تخدم المجتمع وتسعى إلى تطويره.
أردنا أن نؤكد من استعراضنا السابق مدى تقارب الفنون من بعضها بعضاً، ومدى التواصل الذي تم بينها وما يزال مستمراً. ويمكن على هذا الأساس أن نجد أثرَ فن الرسم في فن القصة، وأثر فن المسرح في الرواية، وأثر فن الزخرفة في الرسم، وأثر العناصر المذكورة جميعاً في الشعر.
إن الشعر يتميّز من الفنون جميعاً، فهو - إلى جانب أنه يحمل خصوصيته في ذاته كأي فن من الفنون - يحتوي على قدر كبير من سماتها.
والشعر يُعد بالنسبة إلى المسرح روحَه. فقد بدأ المسرح بداية شعرية واستمر عصوراً طويلة يرافقه. والذي يتصفح الشعر العربي المعاصر يجد أن المسرح يشكل أسلوباً أساسياً من أساليب كتابة القصيدة. فنحن نجد مسرحيات شعرية كاملة، ونجد قصائد طويلة بُنيت على حواريات مسرحية، ونجد كذلك بعض القصائد التي بُنيت مسرحياً، ونجد صوراً فنية رُكبت على أساس مسرحي.
والشعر يُعد بالنسبة لفن الموسيقى صديقاً حميماً. وإلى اليوم لم ينته الخلاف بين أنصار القديم الذين يُلِحّون على ضرورة وجود الأوزان الخليلية ويعدونها أساساً جوهرياً في الشعر وبين أنصار المعاصرة الذين يُصرّون على القول: إن الوزن الخارجي - ويقصدون الأوزان الخليلية - ليس كل شيء في الشعر، ولكنهم مقابل ذلك يُقرون بأهمية الإيقاع في القصيدة ومقدرته على الإيحاء والتأثير، ويعدونه البديل عن الأوزان الخليلية.
ولو حاولنا النظر في الصلة بين الشـعر والفن التشكيلي لوجدنا أنهما يلتقيان في نقاط كثيرة. فالشاعر والفنان التشكيلي يقدّمان الأحاسيس والأفكار في صور. أي إنهما يفكران في صور. وقد كانت هذه الفكرة - فكرة ارتباط الشعر بالرسم عن طريق تقديم المعنى مصوراً - سائدةً منذ القديم. فسيموندس الإغريقي الذي عاش قبل أرسطو قال: (الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت). وقد تنبّه نقادنا القدماء إلى أهمية ذلك وفصّلوا فيه تفصيلاً (ولعل ما كتبه عبدالقاهر الجرجاني وحازم القرطاجني أبرز دليل على ذلك).
من خلال ما تقدّم نجد أن أهم عنصرين رافقا الشعر وأثرا فيه هما الموسيقى والرسم. ولكن يبدو أنه على الرغم من نقاط الالتقاء والتأثير المتبادل بين الشعر والفن التشكيلي يظل كل منهما يحمل في داخله خصوصية تميزه من الآخر. ويمكن رصد ذلك من خلال الحديث عن سمات الصورة الفنية في كليهما.
إن الفنون التشكيلية فنون مكانية تأخذ حيّزاً في المكان وهي تعبّر عن الزمان من خلال المكان الملموس، ويأخذ البصر من بين الحواس الأساس في تكوينها وتشكيلها وتذوقها جمالياً. وهي لذلك محدودة بحدود المكان المحاكَى: الرسم من خلال لوحته المحدودة، والعمارة من خلال تكوينها المرئي، ومكانها المقيس، والنحت من خلال مادته الصلبة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفنون التشكيلية المحكومة بالمكان لا تتوقف عند حدوده المقيسة في تعبـيرها، ولكنها تبقى قاصرة عن الشعر، لأن طبيعة مادة الشعر تختلف في طاقاتها عن المادة في الفنون التشكيلية. ومادة الشعر هي الكلمة، والكلمة هي عالم قائم بذاته، وهي ضمن التركيب، والتركيب ضمن الصورة، والصورة ضمن السياق الكلي للنص تستطيع أن تقدّم الزمان بإطلاقه، وأن تعبّر عن المكان، وإن كانت لا تستطيع أن تقدّمه كالفنون التشكيلية.
مما تقدّم يمكن القول: إن الفنيين المذكورين يلتقيان في إعادة تشكيل الواقع من جديد ومحاولة تجاوزه، وفي تحسيس المفهوم ومحاولة تقديمه مشخصاً، وفي تقديم النموذج الفني وتعميمه ولكنْ كلٌّ بحسب مادته التي تشكّله. ومن خلال تلك المادة تأخذ الصورة في كلا الفنين خصوصيتها:
فأولاً: الصورة في الفن التشكيلي يصوغها الخط أو اللون أو المادة الصلبة، أما الصورة الفنية في الشعر فهي من إيحاء الكلمة التي تشكّل عناصرها، فتأخذ بعد ذلك طريقها إلى المتلقي.
وثانياً: تبدو الصورة في الفن الأول مشكّلة في المكان، ويأخذ البصر الحيّز الأول فيها. وهي غالباً ما تحاكي المكان المقيس، وإن كانت تتجاوزه من خلال إمكاناتها الفنية. أما الصورة فـي الشعر فهي تشكيل مكاني يصوغها الفعل فيوحي بتكوينها، وهي لا تحاكي المكان المقيس وإنما تتشكل من إيحاء ذلك المكان وانعكاسه في ذات الشاعر.
وثالثاً: تتميز الصورة في الشعر بوفرة المواد التي تساعد في تشكيلها وترفع من قيمتها الجمالية كالإيقاع المسموع، وتنوّع الحركة عن طريق اتكائها على الفعل والزمان بامتداده. وعلى الرغم من أننا نلحظ الإيقاع والحركة والزمان في الصورة في الفن التشكيلي لكن هذه العناصر يبدو وضوحُها أقلَّ منه في الصورة في الشعر. فالإيقاع هنا مسموع وأثر المسموع في النفس أكبر بكثير من الإيقاع المرئي أو الصامت، ومثل ذلك الحركة والزمان.
ورابعاً: تُقَدِّمُ الصورةُ في الفن التشكيلي نفسها إلى المتلقي شبهَ ناجزة لأنها تأخـذ مكاناً محدداً يمكن للعين أن تحصره ضمن منظورها، بينما تعتمد الصورة فـي الشعر على خيال متلقيها بنسبةٍ لا تقل كثيراً عن جهد الشاعر في إبداعها. وهي إلى جانب ذلك تشكيل زماني من إيحاء اللغة، وهذا الإيحاء هو الذي يشكّل المكان والزمان والفكر والعاطفة واللاشعور. وهي ليست محاكاة مباشرة لشيء مكاني ملموس مرئي، وإنما هي اندماج بين مجموع تلك العناصر. ولعل هذا التنوع والتفرّع والاتساع الزماني والحركة والإيحائية وما إلى ذلك يحتاج كثيراً إلى خيال المتلقي لإعادة البناء ومحاولة التشكيل بنسبة لا تقل عن جهد المبدع في تشكيلها.
نخلص مما سبق إلى أن الفنون جميعاً على الرغم من استقلالها تحتاج إلى الانفتاح على بعضها بعضاً؛ فهذا يُثريها ويوسّع من آفاقها ويجعلها أكثر قدرة على التمثيل والنمذجة والتعميم والتأثير..
==========================