سئل العشماوي ذات مرة سؤال انه يعتبر هو وجميع العشماويين خطباء وليسوا بشعراء
فكانت إجابته :


- أقول – أيها الأخ الكريم – إن مشكلة النقد الكبرى أن ساحته الفسيحة تتيح مجالاً لدخول فئة ممن يتصدون للنقد منطلقين من ثقافة نقدية ناقصة ، أو هوى نفس مسيطر ، أو حقد أو صد ، أو نظرة ضيقة مثل خرم الإبرة ، لا يتسع إلا لذلك الخيط الرقيق ، وهؤلاء الذين يقفزون إلى ساحة النقد من خلف الأسوار يتقوقعون على مجموعة من الآراء النقدية العائمة التي أشبهها بسائبة الأنعام التي لا تسير في سرب ، ولا تأوي إلى مراح ويتقوقعون على بعضهم فيما يشبه " الشللية " يتمادحون فيما بينهم مدحاً قائماً على إشباع نهم نفوسهم لا يتجاوزهم ، ولا يجد طريقاً إلى آذان غيرهم، ويقدحون في الآخرين قدحاً قائماً على " التعميم " دون دراسة جادة واعية لذلك ، وأقول لهؤلاء : إن الخطابة والشعر لم يفترقا على مدى الزمن ، حتى في القصائد الوجدانية ، والعاطفية ، لأن الشعر له علاقة بالكلمة المؤثرة ، والخطبة قائمة على ذلك ، وإنما يحمل كل نوع صفات تميزه عن غيره ، فبينما تقوم الخطبة على أعمدة الكلمة المباشرة والصورة المفتوحة ، والجملة المستوعبة لفكر الخطيب وعلمه ، وأدلته وشواهده ، يقوم الشعر على أعمدة الكلمة الموحية والصورة الفنية المحكمة ، والإيقاعات الشعرية التي تنسجم مع الكلمات والجمل وتسكب خلاصة إيقاعها في القوافي ، وبين ذلك صفات مشتركة تحقق التأثير في المتلقي للخطيب وللشاعر ، ومنها مراعاة مقتضى حال المتلقي ، وحال الموضوع أو القضية ، أو الحالة النفسية ، ومنها الإلقاء الجيد الذي يحرك المشاعر ويهز النفوس ، ويستطيع نقل الفكرة والمعلومة والصورة الفنية ، والإبداع الأدبي إلى قلوب المتلقين وعقولهم .

ولهذا ، يكون الشاعر المبدع القادر على الإلقاء الجيد أقرب إلى التأثير في نفوس المتلقين وأقدر على إيصال مشاعره ، وأفكاره وصوره الفنية إليهم، ومن الصفات المشتركة بين الخطبة والقصيدة " الوضوح" الذي لا يسمح بالمذاهب الرمزية " الفارقة في الغموض إلا بها " ولا يسمح بالمباشرة الفجة التي تجعل الكلمة خالية من جمالها الفني ، وصورتها الخيالية البديعة.
ويبقى مع ذلك كله البيان العربي المؤثر قادراً على التغلغل في قلوب المتلقين ، والتأثير في نفوسهم شعراً كان أم نثراً ، قصيدة كان أم خطبة . فما المشكلة بعد ذلك ؟؟؟ .
إن تأثر الشعراء " الناشئين" بمن سبقهم أمر معروف قديماً وحديثاً وسيظل موجوداً مستقبلاً ، ولربما كان انتشار معظم قصائدي بصورة واسعة ، مع ما فيها من مشاعر نحو ديننا وأمتنا ، وقضايانا ، ومن دفقات شعورية ، وومضات نفسية أعرفها تمام المعرفة حينما تتحرك في وجداني، لربما كان ذلك سبباً في وصول شعري إلى المتلقي ، ووجود فئة من الشعراء من الجيل التالي يتأثرون في قصائدهم بقصائدي ، وسؤالي هنا :
ما الذي يضير الأخوة المنتقدين لهذه الظاهرة من جانب ؟ وما الذي يضير الشعر والإبداع الأدبي من جانب آخر ؟ خاصّةً إذا علمنا أن الشاعر الحقّ سرعان ما يتخلَّص من التأثُر الكبير بمن سبقه ويكوَّن شخصيته الشعرية المستقلة حينما تنضج تجربته الشعرية .
هوِّنوا عليكم ، ودعوا المواهب الشعرية تنطلق معي أو مع غيري ممن يرسمون خارطة الشعر الجميلة ويزرعون سنابله الخضراء .
وأقول :
شعري جواد أصيلٌ = به إليكم أسافر
فبيدَرُ الشعر قلبي = لمن يحبّ البيادرْ
ومجمر الشعر قلبي = لمن يريد المجامرْ
وليس من بعد هذا = معنىً لقول مكابر

وأهدي إلى الجميع مقطوعة لي صدرت في ديواني " عناقيد الضياء " بعنوان وضوح :
حملت إليكمو قلباً وروحاً = غبوقاً للمشاعر أو صَبُوحا
أحدثكم بألسنة القوافي = حديثاً ظاهر المعنى صريحا
أوضح ما أريد لأن عندي = لوزن الفكر ميزاناً صحيحا
لأني ما حملت شذوذ فكر = ولا استحسنت في نفسي القبيحا
لأن الحق يركض في عروقي = وأوردتي ، تسرْبلْتُ الوضوحا
ولو أني أردت غموض شعري = لأكثرتم على قولي الشروحا
أأخنق بالغموض مجال شعري = وأجعله لأفكاري ضريحا ؟
فأين رسالةٌ ما زلت أبني = لأمتنا بها أملاً فسيحا ؟

الإجابة منقولة كما وردة في اللقاء الذي أجرته معه منتديات الساخر